رأينا في الحلقة السابقة المسألة الأولى من مسائل حديث دعوة النبي الصحابة إلى الرد على هجاء قريش، وهي المسألة الخاصة بسبب الورود، وسنخصص هذه الحلقة للمسألة الثانية الخاصة بتكليف شعرائه الثلاثة بالرد.
ثانيا: تكليف الشعراء بالرد:
أول ما يلاحظ في النص أنه انطلق مِن الأمر العام بالرد: «اهجوا قريشا؛ فإنه أشد عليها من رشق بالنبل»، إلى الأمر الخاص والتكليف المباشر، فكان في الأول تكليفُ عبد الله بن رواحة، ثم بعده كعب بن مالك، ثم حسان بن ثابت.
ولفظ التكليف العام سبق أن كانت لنا معه وقفات، ويهمنا من ذلك هنا أنه دعوة عامة إلى الرّد، وإشارة إلى أهمية ذلك وأثره على قريش.
والظاهر أن التكليف العام سببه غياب الشعراء الثلاثة وقتها كما يُفهم من لفظ «فأرسل» في الحديث.
والإرسال إلى ابن رواحة، ثم إلى كعب، يفيد أحد أمرين:
كون الدعوة النبوية إلى الرد لم تلق استجابة لسبب من الأسباب.
أو كون النبي فتح في الأول الباب للجميع للتعبئة العامة، ثم خص شعراءه بالتكليف، ليكون في حق هؤلاء آكد، ومراعاة لفضل الشعراء الثلاثة في الشعر والدفاع عن الإسلام والمسلمين.
وفي الحديث إشارة إلى أن النبي أمرهم بقوله: «اهْجُوا/اهجُهُم»، وأن عبد الله ابن رواحة «هجاهم، فلم يرض»، ومن فوائد ذلك أن رسول الله سمع ما قاله ابن رواحة، وأن شعره لم يُرضه، وأنّ عَدَم رضاه عن أدائه الشعري سببُ الإرسال إلى كعب.
ويَحْتَمِل الإرسالُ إلى حسان بَعْدَ كعب أمرين:
كونه هو أيضا لم يُرض، وسَكتَ الراوي عن ذلك؛ لأنه يفهم من السياق.
وكون النبي أراد المزيد مِن الرد فأرسل إلى حسان أيضا، وهذا ممكن كذلك.
وسواء أكان هذا أم ذاك، فإن مَذْهَبَ عبد الله بن رواحة في الهجاء مخالفٌ لمذهب كعب وحسان، فقد روى ابن عبد البر عن ابن سيرين أنه قال: «وانتُدب لهجو المشركين ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فكان حسان وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم في الوقائع، والأيام، والمآثر، ويَذْكران مَثالبَهم، وكان عبد الله ابن رواحة يُعيِّرهم بالكُفر، وعِبادة ما لا يَسمع ولا يَنفع، فكان قَولُه يومئذ أهونَ القولِ عَليهم، وكان قَوْلُ حسان وكعب أشدَّ القولِ عليهم، فلما أَسْلموا وفقهوا، كان أشدَّ القول عليهم قولُ عبد الله ابن رواحة» (1).
ومعلوم أن تعيير الكافر بالكفر غير ذي جدوى، ولا تأثير له، وقد يكون هذا سبَبُ عَدَم رِضا النبي عن شعر ابن رواحة.
وهناك عامل مُرجِّح لأنْ يكون النبي لم يَرض ما قاله كعب أيضا ومن ثم أرسل إلى حسان، وهو أن شعر الهجاء لدى حسان وإن اشترك مع شعر كعب في الخصائص العامة إلا أنه ربما فاته في الجرأة، ودليل ذلك أننا نرى ابن هشام صاحب السيرة يورد له القصيدة ثم يحذف منها أبياتا، ويقول: «تركنا من قصيدة حسان ثلاثة أبيات من آخرها؛ لأنه أقذع فيها» (2)، «تركنا منها بيتا واحدا أقذع فيه» (3)…
والقصد عندنا أن شعر حسان فيه جرأة، وأن تلك الجرأة هي التي جعلت النبي يفضل شعره على شعر غيره في هجاء قريش، إلا أن قبول الجرأة شيء وقبول الإقذاع شيء آخر؛ إذ الثاني جرعة زائدة في الجرأة لا نعلم ما إذا كان النبي قد علّق عليها ولم يصلْنا تعليقُه، أم سكتَ لأسباب قد يكون منها حساسية الظرف الذي جاءت فيه، والتوتر النفسي الذي كان يعيشه المسلمون بسبب الهجوم الشعري القرشي عليهم.
وعلى كل حال، فلا علاقة بين كون ابن رواحة وكعب لم يُرضيا وبين شاعريتهما؛ إذ المقصود أنهما لم يحققا ما أراده النبي ، ولم يَصلا إلى مرحلة الشفاء التي وصلها حسان كما سنرى بَعْد.
وينبغي أنْ لا تفوتنا في موضوع التكليف بالرد مسألتان من الأهمية بمكان:
الأولى هي أن الريادة في الرد كانت للأنصار، وقد يكون سبب ذلك ما راكمُوه مِن تجربة شعرية جعلتهم في الصدارة؛ إذ معلوم أن الإسلام لما دَخَل المدينة كانت للشعراء الثلاثة مكانة في الشعر، وكان النبي بمكة قد سمِع بشاعرية كعب بن مالك كما يُفهم من الحديث الذي دار بينهما في بيعة العقبة (4).
وأما المسألة الأخرى فهي أن النبي لم يَسمح لحسان بالرد إلا بعد تحصيل العلم بنسب قريش ومَحَل نسب النبي منه، ومِن ثم أرسله إلى أبي بكر الصديق؛ لأنه «أعلـم قريـش بأنسابها»، وقد ظهر مِن ذلك أن لأبي بكر مهمتين: الأولى أن يلخّص لحسان نسب النبي حتى لا يهجوه من حيث لا يدري، والثانية أن يُطلعه على أنساب قريش؛ ليعلم مِن أين يمكن أن يهجوهم، وقد يُفهَم مِن ذلك أن أبا بكر أطلعه على نقط الضعف في تلك الأنساب.
——–
1 – الاستيعاب، ص: 165، ترجمة حسان بن ثابت، رقم 518.
2 – سيرة ابن هشام، 2/322.
3 – م.س، 2/323
4 – ؟؟؟