سيدي عبد الرحمن بن القرشي الفيلالي الإمام بفاس عالم عامل، وفقيه فاضل، توفي في شهر الله المحرم عام ثمانية وخمسين وثلاثمائة وألف، آخر من لقب بشيخ الجماعة بفاس، كان شيخنا سيدي عبد الرحمن اربيحة رحمه الله كثيرا ما يردد بين أيدينا في حلقة الدرس بجامع القرويين: لما خرج ابن القرشي.. غرق كل شيء، ويشرح ذلك فيقول: إن الناس أصابهم القحط ونزل بهم الجفاف، وخرجوا يستسقون فلم يسقوا، ثم عاودوا الكرة فلم يسقوا، فذهبوا إليه رحمه الله وهو رجل كبير مريض ورغبوا إليه في الخروج معهم، وهم يعلمون أنه أصلحهم وأورعهم وأتقاهم لله وأزكاهم عند الله، ومازالوا به حتى وافق، فلما خرج واستسقى ما استطاع الناس أن يكملوا صلاتهم من شدة الأمطار.
ومما سمعته مرارا من الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله مما سمعه من بعض شيوخه أن رجلا دخل جامع القرويين مرة فجاء إلى حلقة الشيخ فوقف ينظر إليه ويحدق فيه وهو يلقي درسا من دروسه على طلبته، وظل ينظر إلى الشيخ فلما أطال النظر والوقوف انزعج منه الشيخ قليلا، وسأله مستنكرا: مالك تنظر إلي؟ فأجابه الرجل على الفور: إن لم ننظر –سيدي- في وجوه العلماء ففيمن ننظر؟ فرد عليه الشيخ وقد اهتز من مكانه: «دوك دوك دوك..» أي أولئك أولئك أولئك، وهو يشير إلى غيره من العلماء الآخرين، فلم ير رحمه الله لنفسه أنه من العلماء.
ويحكي أحد تلامذته قال: تولى رحمه الله قضاء جامع الرصيف بفاس في عهد مولاي عبد العزيز، وكان على فاس خليفة للسلطان عمه مولاي عرفة، وكان القاضي لا يقبل من الخليفة السلطاني، شفاعة لديه في بعض القضايا الشرعية وربما أغلظ القاضي القول في مكتوب إلى الخليفة، مثل لا أسمع لك قولا ولا أرفع لك رأسا في الشؤون القضائية، الأمر الذي أدى بالحاجب أبا أحمد بن موسى أن يعمل على نقله (القاضي) من فاس إلى مراكش لا كقاض ولكن كمحدث دارس للعلم، ويبدو أن ترحيله من فاس كان من وحي الخليفة السلطاني الذي قد يكون تذرع بخوف هيجان الأهالي الذين كانوا يرون فيه القاضي العدل الذي يستعدونه في قضاياهم،
وقد تعجب سكان حي دار بوعلي، من القاضي غداة رحيله حيث عمد إلى رهن مرشته عند بقال حيه المدعو بنيس في ثمن الصابون البلدي لغسل ثياب العائلة.
وقد سار على هذا المسلك الصلب رحمه الله عندما تولى وزارة العدل أيام السلطان مولاي يوسف ابن الحسن الأول، فعندما بدأ الإفرنسيون يدقون المسمار في نعش حمايتهم بالمغرب باستصدار الظهير البربري (16 ماي 1930) امتنع أن يزكي الظهير بإصدار المرسوم الوزاري بتطبيق الظهير حسب البروتوكول المعهود في مثل الحالة، وقد كان يحكي رحمه الله، أنه راودته الإقامة العامة بكل أساليب الضغط أدى به إلى حوار خشن مع الكاتب العام للإقامة في مكتبه (الوزير) قائلا له أن الذي بيدي هو القلم فقط أما الإقامة العامة فبيدها القوة العسكرية، إن شاءت تطبيق الظهير فلتطبقه بالقوة، أما أنا فلا أغير الشريعة الإسلامية بالأعراف ولو طبقت السماء على الأرض.
ولما صدر الظهير البربري سافر من فاس إلى الرباط للمثول أمام السلطان مولاي يوسف عام 1930 وذكره بأن هذا الملك لم يصل إلى جلالته إلا بمحافظة أسلافه على الشريعة الإسلامية، الأمر الذي تأثر به مولاي يوسف أيما تأثر حتى بكى»
—————
دعوة الحق العددان: 188-189