نشأ الجيل الذي شهد أواخر عهد الاستعمار، وأوائل عهد الاستقلال، وإجازته في التعليم، وفي عدد من المصالح العمومية والخاصة، الجمعة والأحد. لم يكن الاستعمار غبيا إلى الدرجة التي يستثير فيها مشاعر الناس الوطنية والدينية، (وكانت الصفتان ملتحمتين)، فيعتدي على حقهم في يوم الجمعة. ودأب الأمر على ذلك زمنا بعد الاستقلال . وقد غيرت معظم الدول العربية، بعد الاستقلال، عطلة الأحد، لتصبح العطلة يومي الخميس والجمعة، ولم يبق من الدول العربية من يحافظ على الأحد غير ثلاثة دول وهي: لبنان (وله ما يشفع له في ذلك بحكم وجود الطائفة المسيحية)، ثم تونس، ثم المغرب. وفي سنوات السبعين من القرن الماضي شرع الأستاذ إسماعيل الخطيب، رحمه الله، يدعو ــ على صفحات جريدة النورــ إلى الاقتداء ببقية دول العالم العربي، في التخلي عن اتخاذ الأحد يوم عطلة. وأخرج رسالة عنوانها: (لماذا الأحد؟). ولم يلتفت إليه أحد. وشيئا فشيئا بدأت عطلة الجمعة تتزحرح، وبدأ يمهد ليوم السبت ـــ ويا للعجب ـــ ليكون يوم عطلة، وهو أمر شاذ انفرد به المغرب وما يزال. ثم انتهى الأمر إلى إلغاء الجمعة كيوم عطلة، وإثبات السبت عطلة كاملة، بعدما كان مساؤه فقط هو العطلة. واحتج من احتج، ثم سكت الناس، وإن كانت قد بقيت في النفس غصة.
وبقي أمر واحد يقلق الناس، وهو صلاة الجمعة. كيف نستطيع التوفيق بين أداء صلاة الجمعة، وهي واجب، وبين العمل يوم الجمعة. والعمل يوم الجمعة ليس محظورا شرعا، بدليل قوله تعالى: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون . ولكن المحظور هو العمل وقت صلاة الجمعة. وسأقف عند ظاهرتين اثنتين، تتعلقان بصلاة الجمعة.
الظاهرة الأولى: حاول المسؤولون، بعدما انقضوا على عطلة الجمعة، التوفيق بين العمل والصلاة، حتى لا يبقى للمعترضين حجة، فخرجت عن المصالح المختصة مذكرات وتوجيهات بتمكين الناس من أداء صلاة الجمعة، دون الإخلال بالعمل، ولكل إدارة أو مصلحة تقدير ذلك مع موظفيها. وشيئا فشيئا صار يجنى على صلاة الجمعة، وصار كثير من الناس لا يستطيع اللحاق بالفريضة. وغفل الناس عن أن كل عمل أو عقد أو توثيق حصل وقت صلاة الجمعة فهو باطل.
بعض المسؤولين لا يراعي ذلك البتة، وأذكر أن وزيرا أسبق للتعليم العالي كان لا يعجبه أن يعقد اجتماعاته مع ممثلي الجامعات إلا وقت صلاة الجمعة. كنا نأتي من وجدة وأكادير ومراكش وتطوان وغيرها من المدن الجامعية فنجد أن الوزير على عهده لا يتزحرح. وإذا كان منا من كان يأخذ بالرخصة لأنه على سفر، فما بال الذين هم في دائرة (الرباط وسلا وما جاورهما)؟
يبدو أن الذين يقولون إنهم يمكنون موظفي المؤسسات التعليمية والتلاميذ، والمؤسسات الأخرى أيضا، من الصلاة يوم الجمعة لا يراعون الفروق الزمنية بين مناطق المغرب المترامية الأطراف، ويقيسون كل الجهات على العاصمة. ألا يعلمون أن الفرق الزمني الشرعي أحيانا بين شرق المغرب وشماله، وبين غربه وجنوبه يناهز ساعة كاملة؟
إن صلاة الجمعة في الشتاء، في المناطق الشرقية مثلا، تكون قبل الثانية عشرة بدقائق، بينما تستمر الدراسة والعمل إلى منتصف النهار. فليقل لنا هؤلاء: كيف يؤدي الناس صلاة الجمعة؟ بعضهم يأتي مهرولا من العمل إلى المسجد مباشرة، لعله يدرك الصلاة، أما الخطبتان فلاسبيل إليهما. وبعضهم يضطر إلى صلاتها رباعية. فعلى من يقع إثم ذلك؟ ومن ذا الذي يكون على استعداد ليقول للناس: (اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم)؟
الظاهرة الثانية: هي ظاهرة الباعة المتجولين، وهي ظاهرة معروفة ومشروعة عالميا، وإن كانت بعض الدول تنظمها تنظيما محكما لا يؤثر على شيء من مصالح الناس، بينما تترك دول أخرى الحبل على الغارب، فتصبح الظاهرة، وهي مشروعة كما قلنا، مزعجة ومعطلة لمصالح كثير من الناس.
والذي يعنينا منها الآن هو ما له علاقة بصلاة الجمعة. فكثير من الباعة يتجمعون أمام المساجد بسلعهم يوم الجمعة، يعرضونها على الناس. حتى إذا ارتفع الأذان هرع عدد قليل من الباعة إلى الصلاة، وبقي معظمهم وكأنه غير معني بالنداء. وهؤلاء هم الغافلون الذين يحتاجون إلى من يبصرهم بأمر دينهم.
وما يكاد الإمام يُسمع تسليمه حتى ترتفع أصوات الباعة بالنداء على سلعهم، ويهرول بعض المصلين إلى الخروج متخطيا الرقاب، مؤذيا غيره من المصلين، ليلحق بالسلعة المعروضة قبل نفادها.
وما ندري أكانت قلوب هؤلاء معلقة بموعظة الإمام وبالصلاة أم كانت معلقة بالأسواق؟ وهل حصل لهم شيء من الخشوع الذي هو سبب الفلاح، أم كانت قلوبهم غافلة لاهية؟ وما رأي فقهائنا الأجلاء في الموضوع؟ وكيف نعالج هذه الظاهرة؟ تلك أسئلة نعرضها عسى أن يجيب عنها أهل الاختصاص.
يلتقطها د. حسن الأمراني