يحق للمرء أن يدون مشاهداته، ويحق له أن يدون خواطره وهو يسيح في ملكوت الله تعالى، أو هو يتقلب في الوهاد والهضاب، والفجاج والشعاب، أو يرتقي الجبال وينزل السهول والتلال، أو يقف أمام البحار وأمواجها أو يرفع بصره إلى السماء معجبا بشساعتها ومستمتعا ببهاء النجوم مما تحار فيه العقول وتعجز الألباب والفهوم, ويحق له أن يسجل ما يتدفق بين جوانحه من مشاعر البهجة والاغتباط بما بث الله تعالى من جمال خلاب في صفحات الكون المنظور، ومن نعم مذكرة بالمنعم جل وعلا، ولا تملك النفس المؤمنة إلا أن تنطق معترفة بعظمة الله جل في علاه وهي تقف أمام مناظر يعجز اللسان عن وصفها جمالا وكمالا، إتقانا وإحسانا، ويعجز عن الوفاء بشكر من تفضل بخلقها إكراما وإنعاما، ويعجز الخلائق كلهم عن إنشاء مثلها، والوفاء بشكر الباري جل وعلا.
لكن الرحلة إلى الديار المقدسة، وإلى البلد الحرام، وإلى بيت الله الحرام : الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا أحق بالتدوين وأحق بالذكر من باب وأما بنعمة ربك فحدث ، ولم تتحرك نفسي في أرض مثلما اهتزت في مشاعر الحج، ولم تطرب في أي موطن آخر مثلما طربت في مناسك الحج وفي البلد الحرام فرحا بنعمة الله رب العالمين وشكرا له على هذا الاجتباء والاصطفاء.
وكنت أجوب كل شبر في البلد الحرام وأذكر أن ربي اختارني رحمة منه وفضلا لزيارة بلد اختاره الله جل جلاله ليكون دار هجرة نبيه وخليله إبراهيم عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلوات وأزكى التسليم، واختاره ليكون مهبط الوحي على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين سيدنا محمد صلى عليه وعليهم جميعا، واختاره تعالى مركزا للتوحيد والإيمان، وأرضا لا بد أن تذكرك بأن الله اختارها لتكون أرض المعركة بين الحق والباطل، وأنها الأرض التي انتصر فيها الحق وعبد الله تعالى فيها عبادة خالصة انتفى فيها الشرك وتحطمت الأصنام،
ليعلمنا ربنا ويعلم الدعاة إليه في كل زمان ومكان أنه مهما علا الظلم والشرك والطغيان فإن الأمل في إصلاحه مطلوب ، وأن إزهاقه يتطلب تضحيات جساما وتربية الرجال الرواحل.
إنه البيت الذي لا يدخله الداخل إلا وقد تجرد لله من المحيط والمخيط، قلبا وقالبا، إنه البلد الذي آوى موكب الأخيار من الأنبياء والمرسلين وموكب المجاهدين من الصحابة والتابعين، إنه البلد الذي رسخ فيه العلم وسكنه كل عارف بالله وآثره على الدنيا وما فيها، إنه البلد الذي كتب الله تعالى له الأمن كل الأمن فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، ذلك الأمن الذي فقدته الأمة اليوم فقدانا جاء نتيجة طبيعية لفقدها بوصلة القبلة الحق ولتفرق السبل الهادية إلى ما يلزم لتوحيد القبلة.
لم تكن قدماي تطأ موطئا إلا وتستحي نفسي من الوقوف فيه، لأنه لا بد أن روحا طاهرة من أرواح أحد الأخيار من الأنبياء والمرسلين والصحابة الكرام والراسخين في العلم والتقوى والخشية لله عز وجل قد وقفَتْ فيه ذاكرة لله ومذكرة به، عابدة لربها متبتلة، آمرة بمعروف ومؤتمرة به، ناهية عن منكر ومنتهية، معلمة ومتعلمة، فكنت أستصغر عبادتي أمام عبادتهم وطاعتي أمام طاعتهم، وعلمي بالله أمام علمهم بربنا جل وعلا. ولكن كنت أتشفع فأٌقول ربنا اختارني واصطفاني لأقف في موقفهم فأسأل الله العلي القدير أن يكرمني بما أكرمهم من التقوى والعلم وحسن الأدب والولاية، وأن يكرم أمتنا اليتيمة بالولاية، فمن تولاه الله جل في علاه كفاه، وفي مراتب الخير أعلاه.
وما كانت تمر علي لحظة إلا وأقول: في مثل هذا الوقت كم من عابد ناجى ربه تعالى بإخلاص، وكم وقف في هذا الموقف ناظرا في حاله وفي حال أمته مشفقا، وكم مرة تنزلت رحمات الله تعالى على عمار البيت والبلد تنزلا يليق بقدر المنعم وبقدر المنعم عليهم ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
إن الخواطر التي تختلج في النفس في موسم الحج موسم التجرد لله تجردا تاما، وتتدفق إيمانا على قدر ما لدى المرء من علم بالله ومحبة، وتفيض تذللا وخضوعا على قدر ما في القلب من تقدير وتعظيم لله جل وعلا، وتسمو في مدارج القرب على قدر ما أفاء الله عليها من نعمة الاجتباء والهداية واالتوفيق.
وإن تدفق مشاعر الإيمان التي تملأ جوانح المسلم في الحج لا تعدلها أي مشاعر كما وكيفا، إنها خواطر تشعر العبد بدوام الاتصال بالله تعالى، وبالتجرد إليه تجردا يرفع الحجب الكثيفة بين النفس وباريها، وإن ارتفاع الحناجر بالدعاء والابتهال من حولك لتوحي بمشاعر الافتقار التام وبمشاعر التقصير، وبمشاعر المحشر وعطش الخلائق إلى رحمة الله العاجلة.
إن الرحلة إلى الحج بمثابة شد الرحال إلى الله جل وعلا بمفارقة الحياة ومعانقة الممات، وتشبه رحلة الموت التي يفارق الإنسان فيها كل ما كسب من الحسب والنسب، فيه يشعر العبد بانقطاع الإمدادات إلا من الله، تراه العين عين اليقين وينقطع الرجاء إلا في الله عز وجل، ويحس به المؤمن إحساسه بالماديات، فيستوي عنده الإيمان بالغيب والإيمان بالشهادة .
تجمعت لدي عن الحج وفيه خواطر امتزج فيها الألم بالأمل والتقصير بالتشمير، وغمرتني شجون وهموم أرجو أن تكون خير زاد لكل مؤمن لمزيد من العمل لرفع ما حل بالأمة من كثرة الزلل والخلل، وساورتني انطباعات شتى تفاوتت في مراتب الخير علوا ودنوا أحببت أن أبثها رغبة في الاعتبار والتذكرة، ورجاء في النصح والمغفرة، وقصدا صادقا في ما يلزم على المسلم تجاه أمته من التوعية والتبصرة، أرسلها تنجيما بحسب كل مقام وكل موقف جاشت فيه النفس بما أفاء الله عليها من مشاعر الخير من لحظة الإحرام إلى آخر عهد بالبيت الحرام. أرجو بها النفع لأهل الإسلام، وأبتغي بها وجه الله تعالى ليصلح حال أمة الإسلام ويهديها سبل السلام، ويحفظها من أن تكون مأدبة للئام.
.د. الطيب الوزاني