الآن بإمكاننا أن ننطلق في جولة استكشافية لخبايا هذه المدينة العريقة، ونحن نتكئ على جزء من تاريخها… أسبوع كامل كنت أغادر الفندق منذ الصباح الباكر ولا أعود إلا بعد غروب الشمس، ففي الوقت الذي كان فيه عدد كبير من المجموعة المرافقة يقضون سحابة يومهم في التسوق، كنت أنجز المهمة التي جئت من أجلها، ألا وهو الوقوف على المعجزة التركية من خلال استقراء الماضي واستيعاب الحاضر… استمبول هي المدينة الوحيدة في العالم التي تقع على قارتين وتحمل بالتالي سحر حضارتين (آسيا وأوربا)… ترتبط في شقيها الأوربي والأسيوي بجسرين معلقين كبيرين ومن خلال أي منهما يمكنك العبور بين قارتين في أقل من عشرين دقيقة… أكثر من 280 ألف سيارة وحافلة تعبر الجسرين يوميا، وأزيد من أربعة ملايين شخص يتنقلون من الشق الأسيوي إلى الشق الأوربي للالتحاق بأعمالهم ويعودون في المساء… أربعة عشر مليون نسمة هو عدد سكانها حسب آخر إحصاء سنة 2010م، يضاف إليهم ما بين خمسة إلى ستة ملايين سائح… أي عشرون مليون نسمة تعيش يوميا في هذه المدينة العملاقة.. تجوب شوارعها أكثر من مليون سيارة أجرة (طاكسي) -ولك أن تتخيل عدد السيارات الخاصة- ما من وسيلة نقل تبحث عنها إلا وتجدها أمامك (الباص.. الميكرو باص.. الطاكسي.. المترو.. الترامواي.. العبارات المائية…)، الشيء الذي يجعل حركة التنقل بين أطراف المدينة جد متيسر… في فجر أول يوم لنا في مدينة الفاتح والذي كان يصادف الثلاثاء 12 غشت 2014، أي يومين فقط بعد الإعلان عن نتائج أول انتخابات رئاسية عن طريق الاقتراع المباشر، والتي أتت بأردوغان على رأس الدولة، استفقت على صوت الأذان الآتي عبر شتى المآذن التي تزخر بها استمبول، فقمت أتوضأ للصلاة وأنا أتساءل في أعماقي لماذا لم يتجرأ أحد في هذه البلاد التي ينص دستورها على علمانية الدولة، أن يطلب بإلغاء آذان الفجر أو حتى خفضه كي لا يزعج السياح مثلما تجرأت نائبة برلمانية مغربية في بلدنا الذي ينص دستوره على أن دين الدولة هو الإسلام؟…
من أكبر شارع في استمبول الأوربية، والذي يقع في منطقة «أقصراي» بدأنا جولتنا، كنا خمسة أفراد من المجموعة، وكانت غايتنا هو أخذ صورة أولية على المآثر التاريخية، وأهم البازارات، قبل أن نكتشف كل جزء على حدة في برنامجنا السياحي الذي سيبدأ غدا رفقة الدليل السياحي التركي… وفي اليوم الموالي بدأنا جولتنا بزيارة المسجد الأزرق أو مسجد السلطان أحمد، نسبة إلى السلطان الذي تأسس في عهده مطلع القرن 17 الميلادي، ويعتبر تحفة فنية رائعة، يشتمل المسجد على بوابتين كبيرتين، واحدة مخصصة لدخول المصلين، والثانية للزوار، قبل الولوج إلى المسجد عبر بوابة الزوار، تقف فتيات وشبان يستقبلون الزوار ويعطون للسائحات اللواتي لا يرتدين الحجاب لباسا ساترا، ونفس الشيء بالنسبة للسياح الرجال الذين يلبسون سراويل فوق الركبة، كانت تسلم لهم سراويل طويلة، وذلك احتراما لقدسية المكان، وكان السياح الأجانب من غير المسلمين يتقبلون هذا التصرف بصدر رحب واحترام ظاهر… انعكاس أشعة الشمس على القباب المطعمة بالزجاج الأزرق تحيل باحة المسجد إلى زرقة رائعة، يقع المسجد في ساحة كبيرة تدعى ساحة السلطان أحمد، تتوسطها «مسلة فرعونية» جلبها العثمانيون أيام حكمهم لمصر… وعلى جوانب المسجد انتثرت حدائق صغيرة ذات أزهار جميلة، مقابل الباب المخصص للمصلين، وعلى بعد مائتي متر تقريبا يقف مسجد آيا صوفيا شامخا بقبابه التي تشكل طابعا مميزا لكل مساجد تركيا، وهو عبارة عن كنيسة بيزنطية قديمة تم تحويلها إلى مسجد يضم عدة تحف تختزل قيمتين حضاريتين (إسلامية ومسيحية)، وعلى إحدى بواباته نقش الحديث النبوي الشريف السالفة الذكر الذي بشر فيه رسول الله بفتح القسطنطينية.
من المساجد العظيمة التي تزخر بها اسطمبول أيضا، مسجد السليمانية، لمؤسسه السلطان سليمان القانوني، وهو أكبر مسجد بالمدينة يقع على ربوة مطلة على اليوسفور كحارس أمين لمدينة الفاتح.. ما أثارني في الجانب الأوربي من استمبول هو كثرة المساجد، عكس ما كنت أتخيله قبل زيارتي هذه، إذ كنت أحسب أن الجزء الأسيوي هو الذي يزخر بالمظاهر الإسلامية، بينما الجزء الأوربي لا يختلف عن أوربا في شيء.. في تركيا ما يناهز الأربعمائة ألف مسجد، لاستمبول منها نصيب الأسد…
وتستمر الرحلة…
ذ: أحمد الأشهب