كثيرا ما نسمع من رجال أجلاء وعلماء محترمين، فضلا عن جمهور كبير من المحللين والكتاب، أننا قد دخلنا المراحل الأخيرة من أشراط الساعة، وأن الفتنة التي نعيشها تملي علينا الالتزام بالحديث النبوي الوارد عن أبي ثعلبة الخشني ، حين سأل رسول الله عن الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُم أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون .(المائدة:105)، فقال : «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. قيل يا رسول الله: أجر خمسين منا أو منهم. قال: بل أجر خمسين رجلا منكم» (رواه أبو داود والترمذي والحاكم).
هذا الحديث ضعّفه الشيخ الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع، ولسنا هنا في مجال حكم الأخذ بالضعيف أو تركه، أو مناقشة الشيخ في حكمه على الحديث، ولكن نحن نتعامل مع ظاهرة التصرف السلبي مع مشاكل المجتمع استنادا إلى حديث صحّ أو ضعف، فإذا كان جلي الصحة فالبلية في عدم الفقه والفهم، وإذا ثبت الضعف فالبلية أعظم وأشد!
فأن ينتشر فينا الخمول والكسل وأن نغفل عن مضمون الرسالة وواجبات الجهاد المستمر بالمال والنفس في وجه المتربص والعدو المعتدي، إلى درجة أن يصبح العدو على مستوى من المنعة ومن القوة وفرض الذات وتوجيه الأمر وتحديد المستقبل، فيملي علينا أساسيات التغيير لمدارسنا وشكل تعليمنا ورؤانا للدين وللكون وللحياة، ونظرنا لأنفسنا وغدنا، ونستسلم ونقول إنها لفتنة، ونستنبط من الحديث الشريف أن نهتم بخاصة نفسنا وندع الواقع لأنه واقع عوام، فهذا فعلا جهل بالقرآن والحديث والسيرة، وجهل بسنن التاريخ وسنن الكون التي جعلها الله قارة، ويحتاج منا العجلة إلى حسن المراجعة، والنهل من القرآن الكريم وعرض أفكارنا عليه مرة تلو أخرى، لنعرف إلى أي مدى نتجنب الصواب في عديد من الأفكار والآراء، انطلاقا من إعمال معايير وموازين قد تكون رائجة، لكن ليست من الدين، والاحتكام لها ماحق للدين منسف للدين.
ثم إن الكلام عن الساعة بذلك الشكل الذي يثبط الهمم مخالف لأركان الإيمان بالساعة، فمهما استشرف المستشرفون، وتنبأ المتنبئون، لن تأتي الساعة إلا بغتة، ولن يجليها لوقتها إلا هو عز وجل، وذلك مصداقا لقوله سبحانه: يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُل اِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضِ لا تَاتِيكُم إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ اِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (لأعراف:187).
بل نحن مطالبون بالإعداد للساعة كل ساعة، فهي في ذهننا قريبة الوقوع تطبيقا لقول ربنا جل وعلا : فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُم إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (محمد:18)، وقول نبينا عن أنس قال: قال رسول الله «بعثت أنا والساعة كهاتين»، قال: وضم السبابة والوسطى. (رواه مسلم).
أكثر من ذلك، نحن مطالبون باستغلال كل ثانية حتى حين قيام الساعة ما دام ذلك ممكنا، فضلا عن تكثيف الجهد قبل وقوعها المباغت، فقد ورد عن رسولنا المصطفى : «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا» (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ)؛ بل نحن مبشرون بمستقبل عظيم قبل قيام الساعة، فقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل» (رواه الإمام أحمد عن تميم الداري).
نحن مأمورون بالجد لا بالتقاعس، وبالإقدام لا بالاستقالة، فالله جل وعلا يقول: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْاَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُومِنِينَ (آل عمران:139)، أي إذا تحقق الإيمان فيكم واستوطن قلوبكم فلكم حتما العلية كما لكم الأخيرية، تلك المنصوص عليها في قوله جل شأنه : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران: من الآية 110).
فلا ينبغي حتى ولو كنا في الدرك الأسفل من الحضارة أن نهن أو نحزن، أو نستسلم أو نستقيل، لأن الله عز وجل لم يكتف بأن يقول ولا تهنوا بل أضاف سبحانه ولا تحزنوا ، لأن الوهن درجات، تنطلق عللها بداية من التراخي لتنتهي بالحزن على الوضع وإكثار الأماني، وإدخال «لو» و»لولا» في كل تحليل وتشخيص، لو أن لنا كذا لكان كذا، ولولا وجود علان وفلان لكان ما كان، فنتباكى ونتحازن على ضياع أو غياب مستقبلات لو تحققت لبادرنا بالفعل، بل علينا ومن واجبنا أن نبادر بإبعاد الحزن لأنه رفيق الهوان، ونسرع بالإقدام على صنع الغد الذي وُعدنا به ملتزمين بالاستجابة لشروطه. فعدم الوهن واجتناب الحزن يمكنان فعلا من أن يندفع الإنسان إلى التعبئة الواجبة، وإلى المراجعة المفروضة والمشروطة لكي يكون في مستوى المواجهة المطلوبة.
وانتشار الوهن وعموم الحزن جعل أفرادا ومؤسسات في مجتمعاتنا تهرع إلى أحاديث الفتن تتلمس فيها السكينة والعزاء، فتضعها في غير موضعها، وتستقرئ منها ما لا يمكن لا منهجا ولا عقلا أن يستنبطه أولو النهى منها، لتؤكد أن وضعنا مبشر به، وأن حالنا منذر بحلوله، وأن هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله.
والحقيقة أن واقعنا هو ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله، لكن في عدم استجابتنا لشروط القرآن الكريم وغياب الالتزام بالمنهج النبوي المتين، وهو ما له ارتباط كبير وشديد بحدوث البلايا وحلول الفتن. فالله سبحانه وتعالى هو الحق، والنبي هو الصادق الصدوق، ولكن لا ينبغي أن نعتذر بتنبؤات الفتن لنبرر جهلنا بشروط السنن.
الله عز وجل يقول وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ اَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . (البقرة: 217)، وكانت تكفي هذه الآية كي تحركنا في جميع الجوانب الاستراتيجية.
ويقول جل وعلا : كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُم إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَابَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُون (التوبة:8)، فالآخر من طبعه أن يتربص بنا ويكيد لنا، لا يراعي فينا حين العزم على الحرب والفتك رحمة ولا شفقة، ولنا في أحداث التاريخ البعيد والقريب عبرة.
الله سبحانه وتعالى يقول: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُومِنِينَ سَبِيلاً . (النساء: من الآية141)، وواقع حالنا يريد أن يقنعنا عبر قنوات التوهين ومنابر التعجيز المتعددة بأنه ما ترك الكافرون للمؤمنين في واقعنا الحالي من سبيل، فنصب غضبنا على المسلمين ويسب بعضنا بعضا، وهذا مخالف للسنن الإلهية القائمة التي ضمنت الحصن الحصين للملتزمين بالحق ونصرة الحق.
بل بلغ بنا العجز والوهن إلى حدود إبطال بعض مؤسساتنا للجهاد، وقول جانب من علمائنا ومثقفينا والمسؤولين منا بتجاوزه مرحلته التاريخية، واعتبار المقاومة الشرعية للعدو ضلالا ومدخلا من مداخل قساوة العدو علينا، متناسين سننا ربانية فطرية في المقاومة وصد العدوان.
فحتى في عالم الحيوان يلقى القبض بسرعة على الخمول الكسول، لكن المنتفض الفياض نادرا ما يقع فريسة الآخر، وإن وقع فبعد الجهد الجهيد والضنك الشديد، وتحس به يموت وهو معتز بنفسه مدافع عن حياته.
الله عز وجل يقول: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً . (النساء:76)، ونحن واقع خطابنا يزعم من شدة الهون والضعف ـ وإن لم يتعمد القول ـ أن كيد الشيطان لم يدع مجالا إلا دخله، ولا بابا إلا وصده، ولا مكرا في الأرض إلا دبره، لنبرر استسلامنا للواقع ونحن مذعنون.
وكل ذلك نكرره ونجهر به ونردده، لكي نقنع أنفسنا وغيرنا أن لا سبيل لنا إلا أن نبتعد عن أي معالجة أو مواجهة، وأن نتربص حضور أزمنة لعلها تأتي بالفرج، لأننا نجتاز فتنا بشر بها الرسول لا سبيل لنا لردها، وأن واقعنا الحالي واقع محتوم تدل عليه العديد من الأحاديث النبوية والدلالات الشرعية.
وقد لا نعدم الصدق في تبرير حالنا بأحاديث الفتن وأشراط الساعة، كما فعل جانب من السلف حين غزْو التتار، فلم يشفع لهم تصورهم واجتهادهم العقدي والفقهي في تهوين الأمة وتثبيط الهمم من الجرم وضياع الأمانة، لولا زمرة من السلف الأخيار الأطهار، لأن تلك التصورات والمقولات التي استنبطوها تقعيدا للصفوف وتعجيزا للقدرات من فهومهم لأحاديث الفتن كانت كلها مثبطات وحواجز تحول دون القيام بالمراجعة المرجوة والتعبئة المطلوبة والاستعداد للمواجهة الحتمية.
فنحن إذا ما رمنا قويم إصلاح، وقصدنا متين مراجعة، علينا أن نرجع لسليم الرشد في تراثنا ومراجعنا وأقوال صلحاء سلفنا، وأن نؤمن ونتيقن ونقنع أنفسنا بأننا أمة مأمورة بأداء الرسالة، مطلوب منها بأن تقوم بمهام الخيرة المنصوص عليها في الذكر الحكيم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه . (آل عمران:110)، وأن تعلم أن صياغة المستقبل بيدها وهو قريب، وأن العدو المتربص بها الدوائر مهما خطط ومكر فإن مكره محيط به: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ . (فاطر: من الآية43)، وأنها لن تستطيع منع الكفرة من إنفاقهم أموالهم وحشدهم طاقاتهم لصدهم الناس عن سبيل الله، فهم ماضون في ذلك، بل عليها أن تنفق هي على أصوات الحق فيها، وتبذل الغالي والنفيس لنصرة منابر الحق ومؤسسات الحق ورجال الحق، كما أشرنا إلى ذلك في القاعدة الاستراتيجية السابقة، فالغد حتما لها استجابة لقوله عز من قائل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ . (الأنفال:36)، بل سورة الأنفال كلها قاموس استراتيجي مليء بالقواعد والسنن، لكن تحتاج من كل منا إلى فقه واستيعاب، نأمل أن نعرض ومضات منها بعد انتهائنا من هذه السلسلة التي سميناها «أيسر القواعد لبلوغ أنبل المقاصد».
أكيد أننا نحن المؤمنين معرضون للابتلاء والفتن وفقا لقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (محمد:31)، وقوله جل من قائل: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (العنكبوت:2)؛ لكن مطلوب منا أن نستفيد من دروسها لنكون في مستوى المواجهة، لأن الابتلاء والتعرض للفتن قصده دفع الأمة للمراجعة في ضوء القرآن، لتكون في مستوى أداء الأمانة وتحقيق الرسالة التي جاء بها القرآن، لا أن تستسلم للذل وترضى بالهوان.
ثم الغريب أننا نستشهد بالساعة ومضي أشراطها الصغرى وبداية أشراطها الكبرى في مجالات الدفاع عن الأمة والاتحاد في مواجهة الخصم فقط، أما التجارة والسعي للدنيا والتوق للمناصب فكل أبواب الأمل بها مفتوحة، والتبشير بقدوم مواسم حصاد غنية ثرية مطلوب ومرغوب لتحفيز الهمم واستجماع الطاقات، وكأن الساعة جزئية، تشمل جانبا وتدع جوانب!
فيا أولي الألباب، نحن مطالبون بأن نبشر ولا ننفر، بل مأمورون وحيا بذلك، فعن أنس قال: قال رسول الله : «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا» (متفق عليه)، وهذا ليس في الجانب العبادي فقط، بل المسلم موعود بدنيا الخير والتمكين فيها مع الرزق الوفير، أيا كانت الظروف إذا تحققت التقوى في القلوب وسارت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشعوب.
أين نضع قول الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْاَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور :55)، فهل حين قيام الساعة يوقف الله العمل بوعده فينتهي العهد الإلهي؟ أم يخلف الناس عهدهم مع الله فلا تجد من يعمل صالحا؟
طبعا لقد شقينا إن لم نكن نعلم أن الله لا يخلف وعده، وجهلنا ونحن نستحضر قيام الساعة إن لم نستوعب شرطها الأول الذي أشار له الحديث النبوي. عن أنس أن رسول الله قال» لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله «، وفي رواية قال: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله « (رواه مسلم).
فهل انعدم في الأرض من يقول الله الله؟ كيف وهي كلمة ما زالت تصدع في عديد من بقاع الأرض حتى في الغرب اللاتيني، من المآذن والمساجد وبيوت الذكر وساحات الجهاد وغياهب السجن وغيرها من البقاع، بل لنا اليقين بأنه سيرتفع مداها إلى جهات قاصية لا نعلمها، بشر بها المصطفى بعبارة «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر» (رواه أحمد عن تميم الداري).
كما روي عن أبي هريرة عن النبي أنه قال:» لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض أحد لله فيه حاجة، وحتى توجد المرأة نهارا جهارا تنكح وسط الطريق، لا ينكر ذلك أحد ولا يغيره، فيكون أمثلهم يومئذ الذي يقول: لو نحيتها عن الطريق قليلا، فذاك فيهم مثل أبي بكر وعمر فيكم .» رواه الحاكم في المستدرك، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (يريد من يستدرك عليهما البخاري ومسلم).
وأين نضع دلالات الآية وقوانينها وشروطها في سورة الأعراف: ولو ان أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون . (الأعراف : 90)، فهل أغلق الله بركاته على الذين اتقوا وآمنوا فخص بها الذين سبقوا ومنعها من لحق بهم؟ أم انعدم أهل الإيمان والتقوى فلم يعد يلمس لهم أثر؟ نعم قد يكونون قلة، لكن هم موعودون حقا بالخير والبركة، في كل الأزمنة إلى أن تقوم الساعة، وقد رأينا بأم أعيننا منهم جماعة من شتى بقاع الأرض، وفى الله وعده لهم بالبركة المنفتحة من السماء والأرض، شملتهم وعمت محيطهم، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
فالجهل بالسنن، والاختباء تحت عباءة السياسة، وتصنيف الناس حتى يتبرأ من مناصرتهم، وادعاء عدم الفهم لكثرة النوازل، هذه كلها بليات لا ينفع فيها العذر بالفتن، فلا نحتاج – وقد نزل القرآن – لمن يبرهن لنا أن الفساد ظهر في البر والبحر، ولا أن الرشد قد تبين من الغي، ولا أن نختبئ وراء مفتي نلمس ضلال فتواه من مواقفه المخزية، لو أشار علينا بشيء في التجارة أو الصناعة ما صدقناه ولا التفتنا إليه.
بل هناك من يرفض أن يناصر ويقف ظهيرا للمسلمين بحجة الفتنة، وهو يقرأ في ورده الشهري أو الأسبوعي قوله تعالى: والفتنة أشد من القتل . (جزءمن الآية 191 من سورة البقرة)، أو مثيلتها في نفس السورة: والفتنة أكبر من القتل (جزءمن الآية 217 من سورة البقرة)، ولا يدرك أن ما يذهب إليه من التبرير بالفتنة هو عين الفتنة، نسأل الله الهداية واللطف.
ولا بد من التمييز بين الفتنة والسنة، لدى الخاصة والعامة، وهم يدركون ذلك، أو قد يحتاجون لبعض التذكير بذلك، وإلا لأضحت كل نتائج السنن – نقصد السنن الاجتماعية والإنسانية – أو عدم الاستجابة لشروطها، أو الغفلة عن متطلباتها مجموعة فتن، وهي ليست كذلك!
فهل الفشل لكسل أو غياب عمل فتنة؟ وهل ما يترتب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من بلايا بما فيها تسلط الآخر وتجبر الطغاة فتنة؟ فالمعصية معصية مهما تعدد الشرح وتوسع البيان، ولا يمكن أن توصف إلا كذلك. فمعلوم أن ديننا معياري، وكل شيء فيه موزون، فقد أنزل الكتاب ومعه الميزان: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط (الحديد : 25)، ووضع الميزان كما أنزل القرآن، والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان .(الرحمن : 7-9)، بل أنزل القرآن بالحق والميزان، اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ . (الشورى : 17)، بل القرآن هو المعيار والميزان، ولا داعي للف ولا للدوران!
نعم قنوات اللغو الإعلامي تتفنن في تصنيف الناس حتى أضحى المسلم متعدد الأشكال والألوان بين الإسلامي والإسلاموي والمتشدد والمتطرف والمغالي، وكلها معايير مصدرها المخالف في الدين الراغب في تنحيته وإلغاء وجوده، لها ما يبررها من الحضور، لكن لا التشخيص ولا العلاج كانا من داخل الدار ومن أهل الدار! وينساق الناس وراءها يزعمون حين النداء بالعلاج ولم يجدوا عنه محيصا أن الأمر فتنة، وأنهم ضاقت بهم السبل وصعب عليهم في الظلمات القائمة والفتن الرائجة أن يتبينوا الحق، والخير لهم الإمساك، لكن فيما هو عرض قريب و سفر قاصد ودنيا جلية يستبقون لا يترددون ولا يحتاجون لتبيين أو تبين.
وهذا أمر أصله في ضعف التربية والدعوة، وطغيان ما يدعى سياسة وليس بسياسة، وإنما هو لغو أطراف، وجدت الطريق مفتوحا لمنابر الفكر والإعلام، لترسخ مناهج دعوة للتخلي عن أوجب الواجبات، عبر الانسلاخ عن الضوابط والطغيان على القيم وتعطيل للميزان، فالسنة سنة، والمعصية معصية، ولا داعي لتبرير المعصية بجهل السنة.
نعم، المعصية فتنة، كما يقول الله عزوجل: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (الزمر :49)، أي أن الأمر ليس كما يزعم هذا الإنسان أنه أوتي النعمة بحنكته وعلمه، وإنما هي اختبار من الله له بعد الاستجابة لدعائه بكشف الضر عنه، وهذا جانب محفز لا معطل، ومثله قوله جل علاه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (الأنبياء :35)، فالخير والشر كلاهما فتنة، لكن بمفهوم الابتلاء، فهل يمتنع الإنسان عن الخير بدعوى أنه لم يتبين الفتنة؟ أم يقبل عليه ويحذر الفتنة؟
كذلك الوقوف في صف الأمة والذوذ عن حماها والدفاع عن دينها، فالمعيار واحد والميزان واحد، ومن رام الكيل بمكيالين، واحد لدنياه والآخر لدينه، فقد طغى وبغى ولم يرد الحسنى، مهما قدم من عذر، فلا تستوي العين الساهرة المرابطة مع النائمة المحتجة بعدم وضوح الرؤية في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، لا تخطئ النظر فيه العين التي تبصر بنور الله، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور (النور :40)
فلندرك أن «الجهل بالسنن لا يعذر بكثرة الفتن»، كما سبق أن نبهنا في القاعدة الأولى أن «الأولوية للحق وأصواته، ولا فزع لا من حجم الباطل ولا من تعدد أبواقه»، فالحق اليوم بنور القرآن ناصع أبلج، والميزان في ضوء القرآن قويم ليس بأعوج، وحاجتنا اليوم إلى إدراك أبعاد ذلك ونفع ذلك أشد وأحوج، وفقنا الله للهدى والتقى ويسر لنا ما فيه الخير وعاجل الفرج.
موعدنا إن شاء الله في العدد القادم مع قاعدة استراتيجية ثالثة «الطب حفظ صحة برء مرض، دون إرهاب للمريض، ولا شتم للمرض!»، فلا تنسونا من صالح الدعاء.
د. محمد بريـش