د. محمد محتريم
- العلم أساس البناء الحضاري للأمة :
لقد عني الإسلام بالعلم عناية كبيرة، فجعله أولى الأولويات في بنائه الحضاري، لما له من أهمية قصوى في قضية استخلاف الإنسان على هذه الأرض، وقيامه بحق العبودية لخالقه الذي أوجده لهذه الغاية بعينها، والتي حددها له سبحانه في أعظم كتاب أرسله إليه وهو القرآن الكريم، مع أعظم رسول مبعوث وهو محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم قائلا: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (1).
وهذه الغاية السامية المتمثلة في عبودية الإنسان لبارئه، والتي ما وجد إلا لأجلها، لا يمكن أن تقام على الجهل، بل لا بد لها من أساس مكين هو العلم، لذلك اقترنت قضية العبودية في التصور الإسلامي الصحيح بقضية العلم اقتران الغاية بوسيلتها التي لا فكاك لها عنها، تدور معها وجودا وعدما كما يدور الحكم مع علته وجودا وعدما. فلا نكاد نبالغ إذا قلنا إن الإسلام ما اهتم بشيء اهتمامهُ بالعلم، كيف لا ! وقد جعل التعلم فريضة شرعية على كل مسلم ذكر أو أنثى، وحث على طلبه من المهد إلى اللحد، وجعل الانشغال به من أرقى أنواع العبادات، وقيمة مداد العالم مع أنه هو أرخص ما عنده أعظم عند الله في ميزان الأجور يوم القيامة من دم الشهيد، وهو أغلى ما يملكه الشهيد، وقرن خيرية الفرد بمدى التعليم أو التعلم ونفاها عما سوى ذلك، بل إن خيرية الأمة كلها لا تتحقق إلا بمدى حرصها واهتمامها بالعلم تعليما وتعلما، فما اختارها الله إلا لتكون أمة العلم، ورسولها المصطفى ﷺ لم ينتدب لشيء آخر سوى أن يكون معلما، كما صرح بذلك نفسه ﷺ فيما جـاءت به الآثار، وكان من الأنسب لذلك أن تكون معجزته ﷺ كتاب علم ولا شيء أفضل من ذلك، والأليق أيضا أن تكون أول كلمة خوطب بها هو وأمته في هذا الكتاب هي فعل «اقرأ» صيغة أمر بالقراءة، والأمر يفيد الوجوب كما يقول علماء الأصول. هذه القراءة التي ينبغي أن تنطلق باسم الرب الخالق، الذي خلق الإنسان من علق، باسم الرب الأكرم الذي امتن على الإنسان بأفضل نعمة بعد الإيجاد وهي نعمة العلم، فعلمه البيان وعلمه بالقلم ما لم يعلم. وليس من الغريب أيضا على هذه المعجزة / الكتاب أن تسمي سورة بكاملها فيه باسم «سورة القلم» بل ويقسم الله جل جلاله وعم نواله في بداية هذه السورة نفسها بالقلم وما يسطرون. وهو سبحانه حين يقسم بشيء من مخلوقاته فليلفت انتباه الناس إلى أهمية المقسم به. كما يقول علماء التفسير. ولا شك في هذا، فالقلم رمز العلم ووسيلته. والوسيلة في أصولنا تعطى حكم غايتها، وهل بدون العلم يمكن أن تقوم لحضارة قائمة؟! وهل الأمم التي تركت بصماتها في التاريخ هي غير تلك التي جعلت العلم عماد حضارتها، وارتكزت عليه مقومات وجودها وامتدادِ حياتها، وكان سرَّ قوتها وتقدمها؟! وهل كان تكريم الإنسان، صانع الحضارة، ورفع مكانته على سائر المخلوقات، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما وإجلالا، واستحقاقه شرف الخلافة في الأرض، هل كان كل ذلك بشيء آخر غير العلم؟!.
فلما كان للعلم هذه المكانة السامية والأهمية القصوى من المنظور الإسلامي انشغل أبناء أمتنا بالعلم والتعلم منذ الانطلاقة الأولى للإسلام، وانكبوا على دراسته وتحصيله أفرادا وجماعات، متسابقين للفوز بالدرجات العلا التي أعـدها الله للعلمـاء في قولـه تعالى : يرفــع الله الذين آمنوا منكم والـذين أوتــوا العلم درجات (2)، وقوله:هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (3)، وغير ذلك من الآيات الإلهية والأحاديث النبوية التي تَعِد وتبشر العلماء والمتعلمين بالأجور العالية والمنازل السامية والرفعة في الدنيا والآخرة. فأثمر ذلك نهضة علمية مع صحوة إيمانية ما أنجب التاريخ قبلها ولا بعدها مثلها. حيث امتزج فيها الإيمان بالعلم، وتجددت صلة السماء بالأرض تجددا لم يسبق له مثيل، فنزل غيث الوحي بالهدى والعلم على قلوب ظمأى، سرعان ما تشربته فأحياها الله به كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر. فأثمرت بإذن الله ما انتفعت به البشرية جمعاء، لا الأمة الإسلامية وحدها، وكان خيرا وبركة ورحمة للعالمين.
- تخلف الأمة ومحاولات فاشلة في الاصلاح:
ثم أتى مع الأسف الشديد على هذه الأمة حين من الدهر تراجعت فيه إلى الوراء، وتسلم فيها زمام الأمور من لا يحسن قيادتها من عبدة الدرهم والدينار والقطيفة، ممن لا هم لهم إلا تلبية شهوات البطون والفروج، والتكالب على الكراسي والعروش، واسترخاص دماء القريب والبعيد في سبيل ذلك. فركنت الأمة بكاملها إلى الدنيا، وأخلدت إلى الأرض، وخارت العزائم، وضعفت الهمم، وعادت الجاهلية بكل ما تحمله من دلالات التخلف والانحطاط، وبمختلف صورها وأشكالها، لتستحكم في كل شؤون حياتها. بل وأصيبت بالقابلية للاستعمار حسب تعبير المفكر مالك بن نبي رحمه الله، فاستعمرت من قبل شهواتها وأهوائها وجهلها قبل أن تغري غيرها وتسيل لعابه وتفتح شهيته لينقض عليها انقضاض الوحش على فريسته، وتداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، لا يرقبون فيها إلا ولا ذمة، ينهبون خيراتها، ويقتسمون ثرواتها، ويتحكمون في دواليب حياتها، ويسيرونها ويسيرون بها كيف شاءوا وحيث شاءوا. بل إنهم ما تركوا وسيلة أو أسلوبا يمكن القضاء به على كل مواطن القوة فيها، والإجهاز على كل عرق لا يزال ينبض فيها بالحياة، إلا لجأوا إليه. هذا حال الأمة منذ زمان، ولا يزال وضعها يزداد ترديا وسوءا، وليلها يزداد ظلمة وحلكة إلى يومنا البئيس هذا.
وفي كل لحظة كانت تتعالى أصوات بعض الغيورين على مستقبل الأمة بالمناداة بإصلاح الأوضاع، وعلاج الجسد من الأوجاع، قبل استفحال الداء، واتساع الخرق على الراقع، وقبل فوات الأوان. فكانت هنا وهناك بعض المحاولات لتجاوز الأزمة، لكنها محاولات باءت بالفشل. لأنها لم تضع الأصبع بعد على موطن الداء، وانشغلت بإصلاح القشور عوض الجوهر، وبأعراض المرض بدل جذوره. فما تبدل الحال وما تغير، وبقيت دار لقمان على حالها، بل ازداد حالنا بؤسا. وظن بعض أبناء الأمة ممن تأثروا بثقافة الغرب وحضارته أن المخرج الذي لا مخرج سواه يكمن في الانسلاخ كليا عن هويتنا وشطب خصوصيتنا الثقافية والحضارية، ونصبح ذيلا من أذيال الغرب، ونسي هؤلاء أو تناسوا ما قاله سابقا عقلاء هذه الأمة عن خبرة ووعي: «إنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها».
- إصلاح الأمة بإصلاح تعليمها:
إن صلاح أول الأمة كان بالعلم مقرونا بالإيمان، وصلاح آخرها لن يكون إلا بذلك. فلا بد من نهضة علمية جديدة مقترنة بصحوة إيمانية كما حدث في البداية. وهذا هو الأساس المتين لنهوض الأمة من جديد، وهو السبيل الأوحد لاستئناف رسالتها الحضارية مرة أخرى. ولعل أقصر طريق وأضمنه، لتحقيق هذه الغاية في النهضة والنهوض، والكفيل بإحداث التغيير المنشود، هو الإصلاح الجاد والحقيقي للتعليم بكل مستوياته وتخصصاته، وإعادة بناء النظم التعليمية عندنا بما يكفل أصالتها، ويكفل قدرتها في نفس الوقت على الاستجابة لمتطلبات العصر واستيعاب مستجدات الحياة، وغير ذلك، مزيد من التيه، ونشدان للسراب مع اشتداد الظمإ، وتكريس لعوامل التخلف والانحطاط. وهذا ما يرجوه ويعمل لأجله ليل نهار أعداء الأمة وأعداء هويتها وعقيدتها.
يقول عمر عبيد حسنة: «إن أي مشروع للنهوض والبناء والتنمية ومعالجة الخلل، والتجاوز، ومحاولة التغيير والإقلاع من جديد، يتم بعيدا عن الارتقاء بنظام التعليم واستمرار مراجعته وتقويمه ودراسة جدواه، واختبار مدخلاته ومخرجاته هو من قبيل المجازفات السياسية والضلال الاجتماعي والعمى الفكري، ولون من الضرب على الحديد البارد، وابتعاد عن الموقع الفاعل، وتعامل مع عالم الأشياء على حساب عالم الأفكار التي هي الإنسان، الأمر الذي يجعلنا نخسر الإنسان والأشياء معا» (4).
- ضرورة التحرر من المناهج الغربية:
ولعل أول خطوة على الطريق، وأهم ما ينبغي البدء به في مجال إعادة بناء التعليم وإصلاحه هي التحرر من هيمنة المناهج الغربية والتغريبية على نظمنا التعليمية والتربوية، في مؤسساتنا وجامعاتنا ومعاهدنا، سواء على مستوى الهيكلة والبرامج والمقررات، أو على مستوى المفاهيم والمصطلحات التي اعتدنا استهلاكها بمضامينها المشوهة كمفهوم العلم، كما نستهلك باقي السلع والأشياء المستوردة دون تمحيص ولا تمييز بين الصالح منها والطالح، بين الصحيح والمعلول، بين الضار والنافع، بين ما يناسب وما لا يناسب. لا لشيء ذي بال إلا لأنها صادرة عن الغرب المهيمن والأقوى ماديا وتكنولوجيا، ومن إملاءاته وقراراته التي على الشعوب المقهورة، وأنظمتها المستعبدة، تقديسها وتنفيذها حرفيا بكل خضوع وخنوع وإجلال، ودون تفكير، مجرد تفكير، في الخروج عنها قيد أنملة، وإلا فالويل ثم الويل لكل من سولت له نفسه خلاف ذلك.
نسأل الله أن يردنا إليه ردا جميلا، وأن يعزنا بطاعته، وأن لا يذلنا بمعصيته، وأن يرزقنا الإخلاص له وحده، لا لغيره، في القول والعمل، فهو حسبنا ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
————–
(1)- سورة الذاريات، الآية : 56.
(2)- سورة المجادلة، الآية : 11.
(3)- سورة الزمر، الآية : 10.
(4)- انظر تقديم كتاب الأمة «النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى د. المكي اقلاينة العدد 34 رجب 1413، ص : 10-11.