العلم وسيلة لبلوغ كل هدف، ووسيلة أساسية لنشر كل خير ودفع كل شر، ووسيلة أيضا لتحقيق مصالح الدنيا والآخرة، إنه فريضة شرعية وضرورة واقعية، يقول سيدنا محمد سيد العالمين والمربين : «من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معا فعليه بالعلم»، لقد قام صرح الإسلام على العلم، وعند بدء تنزله دعا كل مؤمن وكل إنسان إلى أن يتعلم. وإن أعظم منة من الله على رسوله أن أكرمه بالعلم الموحى به إليه، وأن تولى تعليمه بواسطة أمير ملائكته جبريل . يقول الله تعالى مقررا هذه الحقيقة في كتابه الكريم: وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (النساء:113).
بعد بيان أهمية العلم ودوره وضرورته في الحياة، في هذه العجالة، يحسن بعد ذلك أن نتحدث عن مجموعة من العناصر والأسباب، التي تساعد المعلم والمربي والمدرس على تفوقه ونجاحه في القيام بواجبه التربوي والتعليمي، وفي أداء رسالته، ليستطيع تحقيق الأهداف والغايات المرجوة. خاصة ونحن ما زلنا في بداية السنة الدراسية الجديدة، التي نسأل الله تعالى أن تكلل بالنجاح والتوفيق. فنقول متسائلين: ما هي العناصر والأسباب الذاتية والموضوعية التي ينبغي توفرها لإنجاح المسؤولية التربوية وتحقيق أهدافها النبيلة؟
إن المهمة التربوية التي يكتب لها النجاح وتحقق أهدافها وغاياتها، تحتاج في نظري وفي حدود فهمي، أولا وقبل كل شيء إلى وعي جميع مكونات المجتمع بالمسؤولية والواجب، كما تحتاج إلى أن تقوم على ستة عناصر:
أولها: عنصر الأولياء:
سواء كانوا آباء أو أمهات أو هما معا، فالمهمة التربوية تبدأ أولا من المدرسة الأولى التي هي الأسرة، قبل أن يلج الأبناء المدارس بصفتهم التلمذية. فمن الأسرة يتعلم الأبناء ويتلقنون مجموعة من القيم والمبادئ عن طريق القدوة الحسنة والتوجيه الرشيد والتعهد والمراقبة المستمرة، فمن الأسرة تبدأ عملية البناء وتظهر معالمها إما في جهة الإيجاب وإما في جهة السلب، وذلك انطلاقا من طبيعة ونوع البيئة التي تربى فيها الأبناء، وطبيعة الآباء الذين قاموا بهذا الدور، وصدق رسول الله : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه …الحديث». فعلى الأولياء أن يدركوا إدراكا جيدا واجب الرعاية وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم تجاه أبنائهم وكل من هم تحت عهدتهم، وأن يعلموا جيدا أن شأن التربية والتعليم كشأن كل غال ونفيس، بل إنهما أغلى شيء، بل إنهما أولى الأولويات وأجل الأمنيات التي يجب أن يعطى لها الوقت الكافي والجهد البدني والعقلي والتربوي الكافي، والإنفاق المالي الكافي. وانطلاقا من هذا نقول ودون أدنى تحفظ: إن رجاء تحقيق التربية والتعليم الراشدين لا ينال بعدم القيام بالواجب أو ببعضه فقط، ولا بميسور الجهد البدني والعقلي الأدنى ولا بسوف ولو أني، أو بالإنفاق المالي الضعيف أو المحدود، وإنما باستفراغ الوسع في ذلك كله إلى حده الأقصى، و:
من أراد العلا عفوا بلا تعب
قضى ولم يقض من إدراكها وطرا.
فالمطلوب من الأولياء القيام بواجبهم التربوي الأسري قبل إلقاء اللوم على غيرهم إذا هم فرطوا في ذلك، وأن يسهروا ويتابعوا ويراقبوا أبناءهم، قبل مراقبة غيرهم لهم. لأنه مما يلاحظ في واقع الحياة أن كثيرا من الأولياء يهملون واجباتهم اتجاه أبنائهم خلال الفترة الأولى قبل دخولهم إلى المدارس، وبعد الدخول يستمرون على نفس الحال، ويظنون أن إرسال أبنائهم إلى المدارس والمؤسسات هو كل واجبهم في هذا الشأن، فيتركونهم وشأنهم، مقبلين على حياتهم الخاصة يغتنمونها إما في التجارة أو في المهن الحرة أو التعليمية أو الإدارية، وإما في الجلوس أمام الفضائيات أو في المقاهي أو في التجمعات الخاوية الوفاض، وغيرها لتمضية الوقت وملء الفراغ دون فائدة ترجى. وإن هذا ليعد تقصيرا فظيعا وتصورا خاطئا لكيفية إدارة الوقت، لا يشعر من كانت هذه حالهم حينها بمرارة وسوء نتائجه وعواقبه الوخيمة إلا عند حصاد نتائج أبنائه السيئة تربويا وأخلاقيا ودراسيا نهاية كل سنة دراسية، والأدهى والأمر أنهم ساعتها يصبون جام غضبهم وسوء ندمهم على أبنائهم الذين لا ذنب لهم بالتقريع والعتاب الشديد وتصغير شأنهم أمام أقرانهم المتفوقين، مع العلم أنهم ضحايا التقصير والتفريط من قبل الآباء والأولياء في القيام بمسؤولياتهم وأداء واجبهم اتجاه أبنائهم. وعلى من كان هذا حاله التوبة النصوح، واغتنام وقته فيما ينفعه ويفيد أمته ومجتمعه. إن الأب والولي الصالح هو الذي يعي جيدا مسؤوليته كاملة غير منقوصة اتجاه أولاده فيترجمها في واقع الحياة بالقدوة الصالحة وبالتعهد والرعاية والمتابعة والمراقبة والتوجيه الرشيد، والموفق من وفقه الله .
ثانيها : عنصر الأساتذة والمربين:
وأما العنصر الثاني في نجاح العملية التربوية فهو المعلم الأستاذ المربي، لأنه يعد بمثابة الأب الثاني للأبناء والتلاميذ، وبواسطته تكتمل بداية التربية الأسرية وتستمر نحو صياغة نموذج بشري مسلم ذي خلق كريم وثقافة بانية وأهداف نبيلة ليصبح رجل الغد، وعلى المربي بكل مستوياته العلمية والعمرية أن يكون على وعي تام بجسامة مهمته التربوية والتعليمية، وبما كرمه الله وشرفه به من فضل العلم والمعرفة على من دونه من الناس، إذ العلم محض كرم وفضل ميز الله بها العالم والمربي وخصه بها، والعلم يعد إرث الأنبياء وتركة المرسلين قال سيدنا رسول الله : « إن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (رواه ابن ماجة :223). ولا يكون العالم والمربي أهلا لهذا التكريم الإلهي وهذه الحظوة الربانية، إلا إذا وفى بمقتضات ما يحمله من علم وأدب وخلق. ومن مقتضيات علمه وأدبه وخلقه الأساسية أمران، أولهما: القيام بمسؤوليته بصدق وإخلاص دون تقصير أو طمع دنيوي. وثانيهما: الإبلاغ الواضح وفق منهج رصين وعدم كتمان ما علمه الله اتجاه تلاميذه وأبنائه. والأستاذ أو المربي الذي يقصر في أداء رسالته والقيام بمهمته ووظيفته، ولا يؤدي واجبه كما يجب، إلا عند القيام بإعطاء ساعات إضافية مثلا، لمجموعة من التلاميذ هم جزء ممن هو مسؤول عنهم داخل الفصول الدراسية بمقابل مادي أو عرض من الدنيا قليل، يعتبر غاشا لرعيته من التلاميذ، وآثما عند الله تعالى، وعليه أن يراقب الله تعالى في سائر أمره وكافة شؤونه، ويتوب لله توبة نصوحا ويقوم بتبليغ رسالته على أحسن وجه. جاء في الخبر أن رسول الله قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار». وإذا كان مجرد السؤال عن مسألة علمية تم كتمان الجواب عنها يستوجب عذاب النار، فكيف الشأن إذا كانت مهمة ومسؤولية العالم أو الأستاذ والمربي هي التربية والتعليم؟؟. وكيف يكون حال من كان هذا ديدنه، ولم يف بعهده ووعده وقد أقسم بالأيمان المغلظة يوم تكليفه وتعيينه موظفا لدى الدولة، وقد أخذ الله الميثاق على العلماء أن ينشروا ما علموا بين الناس، وأن يجيبوا من سألهم، قال الله تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبيس ما يشترون ( آل عمران :187).
ثالثها: عنصر التلاميذ والمتعلمين:
فالتلاميذ والمتعلمون أمانة وهدف مشترك بالدرجة الأولى بين الآباء والأولياء والأساتذة والمربين، وبين العناصر الأخرى التي سيأتي الحديث عنها لاحقا. فالتلاميذ هم رجال الغد وثروة المستقبل للبشرية، وصنيعة الغد المشرق. وتحقيق هدف الرجولة بالإضافة إلى ما سبق بيانه رهين كذلك بتحقيق وعي التلاميذ والمتربين بأن عليهم هم أيضا واجبا في حدود مقدرتهم، يبتدئ في إدراكهم اللازم بضرورة وحب القراءة والتعلم، وينتهي بمعرفة وسائل وأسرار التفوق الدراسي، والتي منها بذل المجهود الفردي إلى أقصى الحدود، واغتنام الأوقات وفراغاتها وبرمجتها، مع الصبر والعنت في ذلك كله، وموصول الجد والاجتهاد، ثم التعويل على محض النشاط الذهني والجهد الفردي والجماعي. وإن من جد وجد ومن زرع حصد، ومن لم يعتمد على نفسه بالدرجة الأولى بقي في قسمه، وليس العكس كما يشاع. إذ العلم وتحقيق التفوق فيه لا يتمكن منه بسهولة ويسر، ولكنه يحتاج إلى معاناة ومصابرة وجهد ومجاهدة، مع كبح جماح الشهوات حتى تألف النفس طلب العلم وحبه، والشوق للمزيد منه، حتى يغدو ويصبح متعة، ورغبة أكيدة، ووجبة ملحة يكون داعيها جوع الفكر وحاجة النفس وطمأنينة القلب، ولذا قيل: (إن العلم لا يعطيك جزأه حتى تعطيه كلك). وإن ديننا يحثنا بكل قوة على طلب العلم والتفاني فيه، بغية تحقيق الأهداف التربوية والتعليمية وأكثر، وهو توفيق الله للمتعلم وتسهيله له وشق طريقه نحو جنة الرضوان، روي عن رسول الله أنه قال: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء»، (رواه ابن ماجة:223). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟، قال: «مجالس العلم» (رواه الترمذي 3510. بمعناه).
رابعها : عنصر الطاقم الإداري:
فدور الإدارة لا ينقص أهمية عن الأدوار السابقة ولا يقل عنها أهمية، إنما هنالك أولوية ظاهرة في العلاقة المباشرة بالأبناء والتلاميذ، بحيث إن المدة التي يقضيها الابن أو التلميذ مع أبويه أو مع أساتذته ليست بالهينة خلافا لطبيعة علاقته بالطاقم الإداري التي تبقى علاقة إدارية صرفة ومحدودة. ويتجلى دور الطاقم الإداري ومسؤوليته أكثر في ضبط الأساتذة ومدى قيامهم بواجبهم التربوي وحضورهم، وكذا التلاميذ على حد سواء، ثم ضبط العلاقة بين هؤلاء وبين أولياء التلاميذ في إطار علاقة المؤسسة التربوية والتعليمية التي تجمعهم. كما يتجلى أيضا في الحفاظ على سمعة المؤسسة من حيث معاقبة المشاغبين والضرب على أيديهم بقوة، وتوجيه المنحرفين،… ثم الحفاظ على نظافة المؤسسة بكل مرافقها والقيام بالتجهيزات اللازمة لها من قبل الدولة، بهدف تيسير الأمر على المربين والإداريين للقيام بواجبهم وأداء رسالتهم العلمية في أمن وأمان واستقرار وضبط وانضباط، مع استحضار كل التحفيزات الضرورية المادية والمعنوية. وإن إدارة غير كفؤة لا تستطيع تنظيم شؤونها الخاصة، لا يمكن بالأولى والأحرى، أن تنظم شؤون مؤسسة عامة أو خاصة عن جدارة واستحقاق. ومؤسساتنا التعليمية عموما ما زالت في حاجة إلى إداريين أكفاء، يتم انتقاؤهم حسب الشروط المطلوبة، فيهم ومنها الخبرة والتجربة الكافية مع تقديم مشروع يتضمن تصورا ورؤيا في كيفية التسيير الإداري بكل تجلياته ومستلزماته وهكذا. ولا ينبغي أن يفهم من كلامي هذا أن مؤسساتنا التعليمية لا تتوفر على رجال أقوياء أمناء ذوي أهلية وخبرة ودراية، بل هم والحمد لله موجودون لكن ينبغي المزيد من الشفافية في الاختيار والانتقاء، مع القطيعة مع أساليب الزبونية والحزبية والمحسوبية والارتشاء وغيرها من الأساليب المخالفة للشرع والقانون، والتي لا يرضى بها حتى الحمقى من الناس فأحرى عقلاؤهم.
خامسها : العنصر الإعلامي :
فلا أحد اليوم من الناس يجهل دور الإعلام بكل تلاوينه في التأثير والتوجيه نحو الإيجاب أو السلب في المجتمع بكل فئاته العمرية، وخاصة الأطفال والشباب الذين لم يشتد عضد شخصياتهم بعد، ولم يتم بناء وعيهم بخطورة ودور الوسائل الإعلامية بعد وما فيها من منافع ومضار. وإذا كانت لدينا العزيمة والإرادة القوية والنية الصادقة في بناء جيل مسلم مؤمن صالح لأهله وجيرانه ومربيه ومجتمعه ووطنه وأمته، فينبغي أن يكون دور وسائل الإعلام بكل وسائله المكتوبة والمسموعة والمرئية والإلكترونية دورا متناغما ومتجاوبا ومكملا لدور المؤسسات التربوية والتعليمية، وأن يصب في تحقيق الهدف المنشود من عملها، ويسهم من خلال ما يبثه من برامج وموضوعات وقضايا، في تخريج جيل متعلم مترب قوي رشيد، يكون ذخرا لأسرته أولا، وللبلاد والعباد ثانيا، قادرا على حمل الراية واستلام الأمانة، غيورا على دينه وأمته ووطنه. وذلك حتى لا يبقى دور التربية في اتجاه ودور الإعلام في اتجاه معاكس. وحتى يكون دوره دورا بناء لا دور هدم وتدمير للقيم والأخلاق والأفكار والمبادئ. كما هو شأن بعض وسائل الإعلام داخل بلادنا، وأخرى خارجها.
سادسها : عنصر البرمجة التربوية المناسبة وتحديد الأهداف المطلوبة:
وفي الأخير فإن صلاح تعليمنا وتربيتنا رهين بصلاح برامجنا التعليمية والتربوية هدفا ومنهاجا. ومن ثم فلا كمال ولا تمام لما ذكر في العناصر السابقة إلا بتحديد أهداف واضحة ووسائل إجرائية لتحقيقها، تتجلى من بين ما تتجلى فيه في مقررات تربوية مناسبة وبرامج علمية منسجمة مع مستوى الأهداف ومستوى الفئات العمرية، تكون منطبقة في أساسها ومرتكزاتها مع أسس ديننا ومبادئ عقيدتنا الراسخة، وتاريخنا المجيد وحضارتنا العريقة. وأي إصلاح واستشراف مستقبلي لتعليمنا ولمنظومتنا التربوية لا يراعي ما سبق بيانه، مع استشارة مستفيضة للنخبة المباشرة والملامسة لمشاكل واقعنا التربوي والتعليمي من الأساتذة والمربين والمفتشين، بل التلاميذ أنفسهم، فإنه سيولد معاقا، عينه عوراء ورجله عرجاء، ولسانه أخرس، وفكره أعوج، هذا فضلا عن أن يحقق هدفا أو تسند له مهمة أو مسؤولية.