ذ. عبد القادر دغوتي
إصلاح التعليم، وتحقيق الجودة في نظامنا التعليمي، وإنقاذ التعليم، كلها عناوين لمواضيع حازت مساحة واسعة ضمن حيز الأطروحات التربوية والمساجلات بين من يهتمون بالشأن التربوي التعليمي تنظيرا وتدبيرا وممارسة.
والكل يشخص ببصره نحو ذلك الهدف المنشود الذي لا تزال طلائعه لم تلح في الأفق.
وهنا تتزاحم الأسئلة المستفسرة والمستنكرة والمتعجبة والمتحسرة: إلى متى سيستمر ليل تعليمنا؟ متى ينجلي عن فجر مشرق ونهار مبصر؟ لماذا لم تثمر السياسات والمحاولات والمخططات الإصلاحية، المتتالية والاستعجالية؟ لماذا لم تؤت أكلها، على ما أنفق في سبيلها من أموال وأوقات وطاقات؟ أين الخلل؟…
أسئلة كثيرة، وأيضا أجوبة كثيرة، وأطروحات وتحليلات متباينة ومختلفة.
ولعل من أسباب هذا الفشل الذي يعاني منه نظامنا التعليمي التربوي، وهذا التخبط الذي تعرفه سياسات الإصلاح المتعاقبة، غياب فقه صحيح عميق للحالة التعليمية ببلادنا. وفيما يلي بيان ذلك:
أولا :تحديد المفاهيم :
أ – معنى الفقه : الفقه في اللغة العلم بالشيء والفهم له (1).
ب – معنى الحالة التعليمية : أقصد بها واقع التعليم ببلادنا بكلياته وجزئياته وحيثياته وملابساته وعناصره الفاعلة ومقدراته وإمكاناته المادية والبشرية.
ج – معنى فقه الحالة التعليمية : أي الفهم الدقيق والعميق لواقع التعليم بكل متعلقاته المتقدمة.
ومن ضمنها أيضا:
العلم الدقيق القائم على الإحصاء والاستقراء للإمكانات المتاحة؛ لأن هذا الإحصاء الدقيق هو ما ستُحدد وفقه المساحة المناسبة التي ستُنفق فيها تلك الإمكانات والمقدَرات.
وبهذا يتم تفادي التخمين والارتجال والكلام الإنشائي، وشعارات الإصلاح الفضفاضة التي تتجاوز حدود الوسع والطاقة، إلى عالم الأحلام والأماني غير المتناهي.
ومن القواعد القرآنية التي يجب استحضارها والعمل وفق مقتضاها، قول الحكيم الخبير: فاتقوا الله ما استطعتم (التغابن 16)، وقوله: لا يكلف الله نفسا الا وسعها (البقرة286). فلا بد للعمل أن يكون وفق مقتضيات فقه الاستطاعة.
الإحاطة بالعلل التي يشكو منها واقع التعليم، وتصنيفها وفق اعتبارات متعددة: علل قديمة وأخرى حديثة. علل أصلية وأخرى فرعية. علل مزمنة وأخرى عادية آنية تظهر وتختفي. علل معيقة للإنتاج والجودة وتأثيرها عظيم، وأخرى تأثيرها خفيف. علل متعلقة بالفاعلين في العملية التعلمية التعليمية من متعلمين ومعلمين وأطر إدارية من أسفل الهرم إلى أعلاه. علل متعلقة بالبرامج والمناهج. التمييز بين ما حقه التقديم وما حقه التأخير في العلاج والتقويم والإصلاح وفق سلم فقه الأولويات.
الدراسة الواعية لتاريخ التعليم ببلدنا – التاريخ الحديث على الأقل – وتتبع مراحله وحركيته نموا وانتعاشا، أو جمودا وانتكاسة.
ولأن التاريخ هو مختبر التجارب الإنسانية؛ فإنه من الحكمة والكياسة الاطلاع على التجارب الناجحة والفاشلة وفهمها في ضوء ملابساتها وظروفها، وتحليل أسباب نجاحها وفشلها، والاستفادة من كل ذلك في حاضرنا. والتاريخ خير مُعلم وإن فيه لعبرا لمن يعتبر، وما يتذكر إلا أولوا الألباب.
ثانيا : فقه الحالة التعليمية وأثره في الإصلاح:
إذا كان «إصلاح التعليم» هو الدواء والعلاج للأدواء التي يعاني منها جسم التعليم؛ فإن فقه الحالة التعليمية هو التشخيص الدقيق لتلك الأدواء حتى يوصف لها من الدواء ما يناسبها. فإذا أصاب الدواء الداء حصل الشفاء بإذن الله تعالى، وإلا فإن سوء التشخيص يستتبع وصف الدواء لغير دائه، أو عدم الدقة في تحديد طريقه وكيفية استعماله والقدر المناسب الذي يجب أخذه.
فقد يكون الدواء ملائما، لكن مقدار ما يؤخذ منه غير كاف للتأثير في العلة، أو قد يؤخذ منه أكثر من القدر اللازم فيشتد المرض وقد يهلك المريض.
وإن من اللآلئ والدرر التي أثرت عن علمائنا – أقصد علماء الشريعة، ومنهم علماء أصول الفقه خاصة – حديثهم عن الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم، حيث إن الفقيه المجتهد إذا اعترضته نازلة، فإنه يجتهد فيها عبر مرحلتين:
المرحلة الأولى: اجتهاده في فهم حكمها وإدراكه من مداركه الشرعية.
والمرحلة الثانية: اجتهاده في فهم وتعيين المحل الذي يتنزل عليه الحكم .
وبتعبير الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى «أن يثبت الحكمُ بمُدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله» (2).
عموما؛ فإن الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم، وتنزيل الحكم على مناطه الخاص في الواقع العام – وليس إسقاطه كيفما اتفق – هذا الأمر يتطلب فقها عميقا عظيما، من صوره:
< فقه الواقع أو فقه الحال، ومعرفة مكوناته معرفة جيدة. وبسب غياب هذا الفقه، تُناط الأحكام بغير مناطاتها وتُنزَل على غير محالها …
< فقه المتوقع أو فقه المآل، وهو معرفة ما هو متوقع، أو معرفة ما سيؤول إليه الحكم استقبالا. هل سيؤول إلى مآله الأصلي المقصود شرعا، من جلب المصالح ودرء المفاسد، أو سيؤول إلى خلافه … إلى غير ذلك من صور الفقه المطلوب.
ثالثا : رجال الإصلاح:
من أسس النجاح في إصلاح التعليم، أن يكون لهذا الإصلاح المنشود رجاله وأهله.
ورجال الإصلاح هم أهل الفقه التربوي الذين راكموا معارف نظرية وميدانية وخبروا الحالة التعليمية، وتحصلت لديهم ملكة تمكنهم من إبصار عمق المشكلة وأبعادها، وإدراك حجمها الحقيقي من غير تهويل ولا تهوين. قال الحق سبحانه وتعالى: ولا ينبئك مثل خبير
وما لم تُسند الأمور إلى أهلها، فانتظر التخبط وانتظر الفشل.
خاتمة :
إن من أسباب عقم المحاولات والتجارب الإصلاحية التي عرفها نظام التعليم في بلدنا، غياب فقه الحالة التعليمية.
فقد كثرت النظريات والرؤى الإصلاحية والتجارب المستوردة، وفي المقابل قل الاهتمام بتحقيق مناطات هذا الكم الهائل من النظريات، فكانت النتيجة أنها صارت تنزل على غير محالها، فتأتي تلك الإصلاحات بمقاييس لا تناسب جسد التعليم عندنا. فهي إما فضفاضة طويلة واسعة الأكمام والأطراف، فهو يتعثر إذا أراد أن يخطو، وإما أنها قصيرة ضيقة لا تواري سوءته ولا تقيه من حر أو قر ولا تزين مظهره.
——-
1 – (القاموس المحيط باب الهاء فصل الفاء)
2 – (الموافقات، مج2، ج4، ص65، دار الكتب العلمية – بيروت لبنان، بدون تاريخ)