ذ. عبد العزيز بن دريس
الحمد لله الذي وعد من حاسب نفسه، وأخذ بزمامها الأمن يوم الوعيد، أحمده سبحانه شرّف أولياءه، وتفضل عليهم في يوم المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير داع إلى المنهج الرشيد، والهدى السديد، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم قدوة الناس في محاسبة النفس، حذراً من يومٍ هوله شديد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم لا مفرّ منه ولا محيد، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا عباد الله : إن محاسبة النفس هي طريق استقامتها، وكمالها، وفلاحها وسعادتها، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. قال ابن كثير في تفسيره: وقوله: وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَد أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم. وقد قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ اَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا، ومعناه : قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عز وجل: وقَدْ خَابَ من دَسَّاهَا أي أهلكها وأضلها وحملها على المعصية. وفي الحديث عن أنس بن مالك عن رسول الله قال: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني». رواه الإمام أحمد والترمذي. وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر ابن الخطاب أنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ. ونقل ابن القيم عن الحسن أنه قال: (المؤمن قوّام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة). وقال وهب فيما ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل، أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوته الذين يخبرونه بعيوبه ويَصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب). وقال ميمون بن مهران: (لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه. ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك). وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة). فإذا علم العبد أنه مناقش في الحساب عن مثاقيل الذر، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أحوج ما يكون إلى الحسنات، وغفران السيئات، تحقق أنه لا ينجيه من هذه الأخطار إلا اعتماده على الله تعالى ومعونته على محاسبة نفسه ومراقبتها ومطالبتها في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن متقلبه ومآبه.
قال ابن قدامة في منهاج القاصدين: (واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمِرْت بتقويمها وتزكيتها وفطامها من مواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك. وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها).
ومحاسبة النفس نوعان: نوعٌ قبل العمل ونوعٌ بعده:
فالذي قبل العمل: أن يقف المرء عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحان العمل به على تركه، قال الحسن رحمه الله تعالى: (رحم الله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر).
والذي بعد العمل ثلاثة أصناف: أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. ثم يحاسب نفسه هل قام بطاعة الله على وجه يرضي الله تعالى أم قصر بذلك؟. الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركُه خيرا من فعله. الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد، لِمَ فعله؟ وهل أراد به وجه الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الخطبة الثانية :
ولمحاسبة النفس آثار ومنافع عظيمة منها:
1 – الاطلاع على عيوب النفس ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمْكنه إزالتها.
2 – المحاسبة توجب للإنسان أن يمقت نفسه في جانب حق الله تعالى عليه، وهذه كانت حال سلف الأمة، كانوا يمقتون أنفسهم في مقابل حق الله عليهم. روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه قال: (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً. وقال محمد بن واسع محتقراً نفسه وهو من العباد: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس معي. قال ابن القيم رحمه الله تعالى : (ومقت النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين، ويدنو العبد به من ربه تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل). وقال أبو بكر الصديق : من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته.
3 – ومن ثمار محاسبة النفس إعانتها على المراقبة، ومعرفة أنه إذا اجتهد بذلك في مَحياه استراح في مماته، فإذا أخذ بزمامها اليوم وحاسبها استراح غداً من هول الحساب.
4 – ومن ثمارها أنها تفتح للإنسان باب الذل والانكسار لله، والخضوع له والافتقار
إليه.
5 – ومن أعلى ثمارها الربح بدخول جنة الفردوس وسكناها، والنظر إلى وجه الرب الكريم سبحانه، وإن إهمالها يعرض للخسارة ودخول النار،
وترك محاسبة النفس وإهمالها، له أضرار عظيمة، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأضر ما عليه: الإهمال، وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأَنِس بها، وعسر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد.
فاتقوا الله عباد الله، وحاسبوا أنفسكم، فإن صلاح القلب وسلامته بمحاسبة النفس، وفساده وعطبه بإهمال النفس والاسترسال في ملذاتها، وشهواتها وإهمال ما به كمالها، فاحذروا ذلك تُعِزُّوا أنفسكم وتسعدوا عند لقاء ربكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولا فيه رضاك ألتمس به أحدا سواك. اللهم إني أعوذ بك أن أتزيّن للناس بشيء يشينني عندك . اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك.
اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعدَ بما علّمتني مني.