تقديم :
من الأيام المباركة عشر ذي الحجة، التي أقسم الله بها في قوله والفجر وليال عشر ومن بركتها أن الله تعالى جمع فيها عبادات عدة، منها ذبح الأضاحي في اليوم العاشر، والملاحظ أن كثيرا من الناس بدأ يغيب عنهم المعنى التعبدي في هذا النسك، وظن الكثيرون أنما هو لحم وكفى، ولذلك وجد من لا يبحث في أسنان الضحايا، ومن لا ينظر في عيوبها، ومن لا يضحي لأنه مريض بالسكر مثلا ولا يأكل لحم الغنم، ووجد من يقارن بين ثمن البقر وثمن الغنم وكثرة اللحم وقلته دون نظر إلى أيهما أفضل ولا إلى أيهما بلغ سن الإجزاء… لذلك –وغيره كثير- أقدم بعض أحكام هذه العبادة التي أكرمنا الله بها، وهذا القربان الذي تفضل الله علينا به، قال تعالى : لن ينال اللهَ لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم (الحج : 35)
فضل يوم النحر :
عن عبد الله بن قرط أن رسول الله قال: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر…»
ويوم القَرّ هو اليوم الحادي عشر.
عن عقبة بن عامر أن رسول الله قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام».
فضل الأضحية :
قال أبو عمر : وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان، فمنها ما رواه سعيد بن داود بن أبي الزبير عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله : «ما من نفقة بعد صلة الرحم أعظم عند الله من إهراق الدم….»
وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن الجهم السمري قال حدثنا نصر بن حماد قال حدثنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت : يا أيها الناس ضحوا وطيبوا بها أنفسا فإني سمعت رسول الله يقول : «ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة فإن الدم وإن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة».
حكم الأضحية :
الأضحية سنة في حق كل مسلم غير حاج لا يحتاج لثمنها في ضرورياته في عامه وإن كان يتيما، والأصل في ذلك فعل رسول الله الذي داوم عليه. فعن أنس ، قال: «ضحى النبي بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما» وقال ابن عمر في الضحية ليست بحتم ولكنها سنة ومعروف، وذكر ابن عبد البر عن أبي بكر وعمر وأبي مسعود الأنصاري وابن عباس رضي الله عنهم ما يفيد تركهم للأضحية. ثم قال تعقيبا على هذه الآثار: وهذا أيضا محمله عند أهل العلم لئلا يُعتقد فيها للمواظبة عليها أنها واجبة فرضا، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم لأنهم الواسطة بين النبي وبين أمته فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم، والأصل في هذا الباب أن الضحية سنة مؤكدة، لأن رسول الله فعلها وواظب عليها أو ندب أمته إليها.
أنواع الضحايا :
أجمع العلماء أن الأضحية تكون من الأزواج الثمانية التي قال الله تعالى، وهي الإبل والبقر والغنم.
الأفضل في الضحايا:
أفضل الضحايا الضأن لأنه الذي ضحى به النبي كما في حديث أنس السابق، ثم يليه المعز لأنهما نوع واحد يجمعهما اسم الغنم، ثم البقر بعد الإبل، قال ابن العربي: والدليل على ذلك: أن النبي إنما ضحى بالغنم، ولو كانت الإبل أفضل لضحي بها. ومما يدل أيضا على أنها أفضل من الإبل في الضحايا أن الله تعالى فدى الذبيح من الذبح بكبش، فقال في كتابه العزيز: وفديناه بذبح عظيم
أسنان الضحايا :
عن جابر، قال: قال رسول الله : «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن»
ففي هذا الحديث أنه لا يجزئ من الأضاحي إلا مسنة، والمسنة هي الثنية وهي التي تلقي ثنيتها وهي في ذات الظلف التي أكملت ثلاث سنين وفي ذات الخف التي أكملت خمس سنين، ولم يستثن إلا الضأن، وعلى ذلك أجمع العلماء، قال عياض: ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجزئ الجذع إلا من الضأن وحدها، وهكذا فالذي يجزئ من المعز ما أكمل سنة ودخل في الثانية، والذي يجزئ من البقر ما أكل ثلاث سنين والذي يجزئ من الإبل ما أكمل خمس سنين، وأما الضأن فاختلفوا هل الجذع هو ابن ستة أشهر أو ثمانية أو عشرة فإذا أكمل سنة فهو ثني، قال ابن العربي: وأجمعوا أن الثني فما فوقه يجزئ منها كلها. وأجمعوا أنه لا يجوز الجذع من المعز في الضحايا ولا في الهدايا، لقوله لأبي بردة: «ولن تجزي عن أحد بعدك» واختلفوا في الجذع الضأن، فأكثر أهل العلم يقولون: يجزئ الجذع من الضأن هديا وأضحية.
حكم الاشتراك في الأضحية :
الاشتراك في الأضحية نوعان: اشتراك في الأجر واشتراك في الثمن، أما الاشتراك في الأجر فجائز بشروط :
< أن يسكن المشرَك مع المشرِك في مسكن واحد ولو حكما بأن يجمعهما باب واحد.
< أن يكون المشرَك قريب المشرِك.
< أن يتولى المشرِك الإنفاق على المشرَك ولو تبرعا.
والأصل في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه أن رسول الله قال في ذبح الأضحية : «باسم الله، اللهم تقبل من محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى به»
وأما الاشتراك في الثمن فلا يصح، ولا تجزئ معه الأضحية أيا منهم، لأن التضحية عبادة والعبادة لا تتبعض، ولا يجزئ فيها واحد عن واحد، ولم يرد في الشرع ما يجوزها، وحديث جابر في الحديبية فمردود من وجوه ليس هذا محل بسطها.
تنبيه: هذا إن دخل المشرك مع المشركين فإن لم يدخل معهم أجزأت عنهم بلا شرط.
ما لا يجزئ من الضحايا :
أجمع العلماء على أنه لا يجزئ من الضحايا العرجاء البين ظلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي، والأصل في ذلك ما روى البراء بن عازب أن رسول الله سئل: ماذا يُتقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: «أربعا» وكان البراء يشير بيده ويقول يدي أقصر من يد رسول الله «العرجاء البين ظلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي» ومثل ذلك العمياء والصمعاء وهي صغيرة الأذنين جدا والبتراء وهي التي لا ذنب لها خلقة أو طروا والبكماء وهي فاقدة الصوت والبخراء وهي متغيرة رائحة الفم. ومشقوقة أذن أكثر من ثلث، ومكسورة أكثر من سن لغير إثغار أو كبر، وذاهبة ثلث ذنب…
ما يجزئ من الضحايا :
من العيوب التي لا تؤثر في الإجزاء كون الأضحية جماء أي لا قرن لها أو مقعدة لشحم أو سمن، أو مكسورة قرن إن برئ، فإن لم يبرأ فلا تجزئ.
وقت الأضحية :
يبدأ وقت الأضحية من حين ذبح الإمام إلى غروب شمس اليوم الثالث، ومن ذبح قبل الإمام أعادها، والأصل في هذا ما روى البراء بن عازب، قال: قال النبي : «إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء» فقال رجل من الأنصار يقال له أبو بردة بن نيار: يا رسول الله، ذبحت وعندي جذعة خير من مسنة، فقال: «اجعله مكانه ولن توفي أو تجزي عن أحد بعدك»
وعن جابر بن عبد الله، قال: صلى بنا النبي يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي قد نحر، «فأمر النبي من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي »
مندوباتها :
يندب في الأضحية الجيد السالم من العيوب السمين الذكر الأقرن الأبيض، والأصل في ذلك أحاديث أضحيته ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي به، فقال لها: «يا عائشة، هلمي المدية»، ثم قال: «اشحذيها بحجر»، ففعلت: ثم أخذها، وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: «باسم الله، اللهم تقبل من محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى به» وحديث أنس أنه عليه السلام ضحى بكبشين أملحين أقرنين، وقوله تعالى «وفديناه بذبح عظيم»
ما يندب للمضحي :
< يندب للمضحي –ونعني به الذي يريد أن يضحي بنفسه والذي يريد غيره أن يضحي عنه كالزوجة والولد..- أن يترك حلق جميع شعر بدنه وأن يترك قلم أظافره عشر ذي الحجة، والأصل في ذلك قوله : ندب للتشبيه بالحاج.
< يندب للمضحي ولو امرأة أو صبيا ذبح أضحيته بيده اقتداء بسيد العالمين، فقد سبق في أكثر من حديث صحيح أنه ذبح أضحيته بيده.
< يندب للمضحي أن يذبح أضحيته في اليوم الأول لأن النبي إنما ذبحها فيه.
< يندب للمضحي أن يجمع بين الأكل والصدقة، والإعطاء بلا حد بثلث أو غيره.
الأضحية والصدقة أيهما أفضل؟
التضحية يوم العيد أفضل عند جماهير أهل العلم من التصدق بثمنها، لكونها سنة وشعيرة من شعائر الإسلام، قال القرطبي نقلا عن غير واحد: الضحية أفضل من الصدقة، لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد، ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل. وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله .
ما يمنع في الأضحية :
يمنع بيع شيء منها جلدا أو صوفا أو غيرهما كما يمنع أن يعطي الجزار أجرته منها ولو ذبح قبل الإمام أو تعيبت حالة الذبح أو قبله، لأنها خرجت لله.