د ـ عبد الرحمان بوعلي
وإن كان بدء الشر منسوبا إلى قابل وهابل من بني آدم، فإن هذه النسبة من باب “البادي أظلم” وإلا فإن ألوان الشر وفنونه صارت مهنا واحترافا قل من العباد من سلم من شرارة نارها عرفا أو عادة.
ومن ألوان الشر وفنونه التي تسري في جسم الأمة سريان الماء تحت الكلأ والعشب الكثيف، بلاء اكتوى بكيه ثلة من الأولين وشعوب من الآخرين، إنها ظاهرة الغش، ظاهرة كان مجرد “الحياء ” -إلى عهد قريب- جدارا أمنيا واقيا منها بكل المقاييس.
واليوم نلوم تلامذتنا وأطفالنا في المدارس مباشرة حين نتحدث عن ظاهرة الغش وأسبابها ومجالاتها، هذا اللوم يصل في غالب الأحوال إلى درجة التهمة، وكأن هؤلاء التلاميذ قد استيقظوا يوما ما وفي انطباعاتهم ظاهرة الغش تفوح بها أجسادهم البريئة.
بهذا نزكي ونبرئ مجتمعنا، بل ونسحب عنه المسؤولية كاملة تجاه ما ابتليت به قيمنا التربوية، ولا عجب أن يكون الأمر-إلى درجة المطابقة- شأنه شأن محاربة المخدرات من جهة وإقرار بل دعم زراعتها من جهة ثانية.
روى البخاري في صحيحه وبسنده “استيقظ النبي من النوم محمرا وجهه يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم ياجوج وماجوج وعقد تسعين …» قيل: «أنهلك وفينا الصالحون؟» قال : «نعم إذا كثر الخبث». (شرح صحيح البخاري لابن بطال 10-11)
والخبث: الفسوق والفجور وهو الزنا قال تعالى: الخبيثات للخبيثين .
ولا شك أن أي مجتمع لديه من القيم ما يحقق استقراره لا يمكن أن تغزوه أمهات الخبائث التي جاء بعضها في هذا الحديث إلا بعد رحيل قيمه ومبادئه التي تشكل له حصانة ومناعة.
والغريب في الأمر أن رحيل القيم لا يستشعره إلا الفضلاء من الناس وإن تظافرت في ترحيلها وتهجيرها أطراف تمارس جهدها علنا دون إحساس منها بحرج، بل إن الحرب قائمة على أشدها لردم ما تبقى من قيمنا، سخرت لها وفيها كل الوسائل فوق الممكنة وفوق ما يتصوره من لديه مثقال ذرة من الغيرة على هذا الدين، برامج تؤسس للإجرام بكل فنونه وبالملموس بالصوت والصورة على مرأى ومسمع من العام والخاص، والفاعل يزعم حسن النية وبراءة الخدمة.
برامج أخرى تسهر على محو بقايا من قيمنا الواقية في محيط الأسرة الصغيرة والكبيرة بنوع من المثابرة والمواظبة مع الإخلاص المادي والمعنوي، وبكثافة مدهشة، ما سمعنا قط بشكوى عن قلة مواردها المالية أو ندرتها، مع ما يتطلبه الأمر من تنقلات وبرمجة كثيفة وجهد مستميت.
في المقابل ترى وتلاحظ وبالملموس أن كل ما يحسب دفاعا أو حماية لقيمنا وسلوكنا الخلقي والديني حامت وتحوم حوله شكوك، بل تم ويتم إفراغه من فحواه وتفوح منه رائحة الغش والتحايل ونوع من النفاق وضروب من الكذب، كل هذا يتقنه التاجر في أسواقنا قبل الحديث عنه في مدارسنا وصفوف تلامذتنا، كما يتقنه الحرفيون في صناعاتنا وإبداعنا قبل مدارسنا وتلامذتنا،… بل إننا لا نزكي حتى بعض الفئات المحسوبة على الوعي الديني من مجتمعنا ممن يتحدثون إلى الأمة بالمباشر مرة كل أسبوع يرفعون أصواتهم مبلغين -بزعمهم- عن رسول الله وباسم ولاة أمورهم في بلاد الإسلام، أفئدة جماهير المسلمين تتشوف إلى إنارة الطريق ومعالجة قلوب الحيارى ….
فلا تسمع إلا خطبا في قضايا- الكثير منها يجعل السامع يغط في نومه– ولا بأس إذا أيقظته إقامة الصلاة ليكون بذلك -لا قدر الله- قد صلى جمعته بغير طهور.
خطب عانت من التكرار ما يجعل المواطن يحفظها عن ظهر القلب، خطب تلقى بأسلوب لا علاقة له بواقع الناس، بل حتى بواقع من يلقيها، لأنه في معظم الأحوال إنما ينقلها نقلا أو يستعيرها… يفعل ذلك إما لأنه لا يملك وقتا لإعداد خطبته ومن ثم فهي عمل هامشي في برنامجه، أو لأنه -وهذا هو الأغلب- لا يملك قدرة علمية ومعرفية لكتابة الخطبة، وهنا يفتح المجال للغش في مخاطبة الناس بأفكار الغير بغير ورع، ولربما يكون داعيا إلى إخلاص العمل وإلى تقوى الله بخطاب مغشوش.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : «رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقارض من نار فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» (1).
إننا في زمن تجسدت فيه جل مظاهر البلاء وأساليب الفسق والفساد التي أنذر بها وحذر منها رسول الله .
فقد صح عن رسول الله أنه قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم إن من بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويخونون ولا يؤتمنون ويظهر فيهم السمن» (2).
ما ورد من الرذائل في هذا الحديث مجرد أمثلة وليس مراده حصر ما يتفشى في هذه الأمة من أمراض تهدد مصيرها.
وفي الحديث معنى جليل هو أن الخيرية لا تنقرض في هذه الأمة وإنما تتأرجح بين القوة والضعف، مدا وزجرا.
دليل ذلك أن أهل الخير والصلاح ملح كل زمان لا ينقرض فصيلهم -إن صح هذا التعبير- إلا بقيام الساعة الذي قام الدليل على أنه سيكون على شرار الناس, مفهومه أن ما قبل قيام الساعة وجد الصالحون.
ومن ذلك أن النبي قال: «يا ليتني لقيت إخواني؟ قيل أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني هم قوم يأتون من بعدي يومنون بي ولم يروني» (3).
كما يشير الحديث إلى أن هذه الخيرية في شباب الأمة في العام الأغلب وذلك بالإشارة إلى أن المفاسد المذكورة عادة في الكبار، إذ النذور والشهادة والخيانة والسمن… لا تطلب من الصغار في عرف الشريعة كما في عرف الناس. بل هي في الكبار الذين هم مظنة الأهلية، أهلية أداء الشهادة، أهلية الوفاء بالنذور أهلية حفظ الأمانات…
والله المستعان .
————–
1 – 1/183 رقم الحديث 53 من كتاب: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان. لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني ت:1420هـ دار با وزير للنشر والتوزيع، جدة المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1424 هـ – 2003 م
2 – شرح صحيح البخاري لابن بطال 6/156 باب : النذر في الطاعة
3 – التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 20/247