ذ.محمد بن شنوف
عن أبي ذَرٍّ جُنْدب بن جُنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله قال «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وأتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رواه الترمذي وقال : حديث حسن. ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة عن النبي أنه سُئل : «مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّة؟ قَال تَقْوَى اللَّهِ وحُسْنُ الخُلُقِ» أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه.
تحدثنا في العدد الماضي عن التقوى التي صدر بها رسول الله حديثه الشريف، وفي هذا العدد سنتطرق بحول الله تعالى إلى مفهوم التوبة ومعاني الأخلاق المستفادة من هذا الحديث الشريف.
ثانيا: التوبة
قوله «وأَتبعِ السيئةَ الحسنةَ تَمحُهَا»، أصل هذه الوصية في القرآن الكريم قوله تعالى: وَأقِمِ الصَّلاَة طَرَفَي النَّهارِ وَزُلَفاً من اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّآت (هود 114)، وقوله تعالى: إِنَّ الذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُم طائِفٌ من الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ، (الأعراف 201)، وقد وصى تعالى المتقين في كتابه بمثل ما وصى به النبيُّ في هذه الوصية في قوله عز وجل : سَارِعُوا إلى مغْفِرة من رَبِّكُم وجنَّةٍ عرْضُهَا السَّموَاتُ والارْض أعِدَّتْ للْمُتَقِينَ الذينَ يُنْفِقُونَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والكَاظِمِينَ الغَيْظِ والعَافِينَ عن النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنينَ والذين إِذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا على مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولاَئكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِين (آل عمران 133-136). فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسان إليهم بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عنهم، فجمع بين وصفهم ببذل الندى واحتمال الأذى، وهذا هو غاية حسن الخلق الذي وصى به النبي معاذاً، ثم وصفهم بأنهم إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا عليها. فدل على أن المتقين قد يقع منهم أحيانا كبائر وهي الفواحش، وصغائر وهي ظلم النفس، لكنهم لا يصرون عليها بل يذكرون الله عقب وقوعها ويستغفرونه ويتوبون إليه منها.(انظر جامع العلوم والحكم ص 142).
غير أن ما يجب أن يعلمه المؤمن في هذا الشأن هو معرفة الوسائل التي تحصل بها التوبة ليحرص على الإتيان بها. وتحصل التوبة بسائر أنواع العبادات الخالصة والصائبة في أدائها، فتكون بإسباغ الوضوء وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة وأداء الزكاة والصدقات وبالصيام والقيام وحج بيت الله الحرام، وذكر الله على كل حال والكفارات والحدود، وبر الوالدين وصلة الرحم والاستغفار وحمل الجنائز والعقوبات القدرية، “لاَ يُصِيبُ المُسْلِم نَصَبٌ ولاَ وصَبٌ ولاَ هَمٌّ ولا حزَنٌ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كَفَر اللَّهُ بِهَا خَطَايَاهُ”، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة على ذلك. وروى مسلم في باب الحض على التوبة: “لَلَّهُ أشَدُّ فَرحاً بتَوْبَةِ عبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلاَةٍ فانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُه وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا وَقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَما هُوَ كَذَلِك إِذ هوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ. فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ”. والصحيح عند الجمهور أن الصغائر تكفرها الوسائل الآنفة الذكر، وأما الكبائر فلا تكفر بدون التوبة. لأن التوبة فرض على العباد. قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الحجرات11). وهل تمحى الذنوب فلا يطلع عليها المذنب يوم القيامة؟ ظاهر الحديث “وأتْبِعِ السَّيِّئة الحسنة تمْحُهَا”. أنها تمحى من صحف الملائكة بالحسنة إذا عُمِلَتْ بَعْدَهَا. والصحيح عند المحققين أنها لا تمحى، بدليل قوله تعالى: وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فيه ويَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ، (الكهف/48).
وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرْاً يَرَهُ (الزلزلة 8-9).
ونختم حديثنا عن هذه المسألة بحديث المقاصّة: قال رسول الله : “أَتَدْرُون مَا المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ مِنَّا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ ولا مَتَاع،َ فقال: المفلسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يأتي يوم القيامةِ بِصلاة وصيام وزكاة… ويأتي قد شتم هذا وقَذَفَ هذا وأكل مَالَ هذا وسَفَكَ دَمَ هذا، فَيُعْطَى هذا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنَيِّت حَسَنَاته قَبْلَ أنْ يُقضَى مَا عَليْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عليْه ثم طُرحَ في النَّار” (رواه مسلم والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة).
ثالثا : الأخلاق
قوله : “وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ”، من المعاني اللغوية للخلُق: السجية والطبع والمروءة والدِّين والعادة. وعرف ابن مسكويْه الأخلاق بقوله: (الخلقُ حَالٌ لِلنفسِ داعِيَّة لَهَا إلى أفعالِها من غير فكر ولا رَوية، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين منها ما يكون طبيعياً من أصل المزاج… ومنها ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب)، (تهذيب الأخلاق ص31)، ويقول الإمام الغزالي: (الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويُسرٍ من غير حاجة إلى فكر وروية؛ فإذا كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعاً سميت تلك الهيئة خلقا حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا)،(الإحياء ج 3 ص : 58)
نفهم من هذين التعريفين أموراً منها:
1 – الخلق حال للنفس أو هيئة لها، أي صفة للجانب النفسي في مقابل الخَلْق الذي هو صفة للجانب الجسدي. وفي دعاء الرسول كان يقول: “اللهم أحسنت خلْقي فحسن خُلُقي”
2 – الصفة النفسية لا بد أن تكون راسخة وعادة دائمة تتكرر كلما تكررت دواعيها، فالمتصدق مرة في حياته لا يعتبر كريما.
3 – الخلق إما فطْريٌّ يولد الإنسان مزوداً به كالحب والحلم والحياء، وإما مكتسب ينشأ بالتعود والتدريب كالصبر والشجاعة والإيثار.
4 – وأن الخلق يطلق على المحمود والمذموم، لذلك يلزم التقييد فنقول: الصبر خلق حميد، والغرور خلق ذميم.
5 – وأن الأفعال المحمودة ما حسنه العقل والشرع معاً والمذمومة ما ذمها الشرع والعقل.
وإذا كانت التقوى هي حق الله على العباد، فإن حقوق العباد بعضهم على بعض هي الجانب الأخلاقي في الإسلام. ولا تؤتي التقوى ثمارها إلا بشيوع روح المحبة والرحمة والعدل والمساواة والتكافل والتعاون لتحقيق مبدإ الأخوة الإسلامية. وقد خص القرآن الكريم رُبُع آياته: (1504 آية) لموضوع الأخلاق فيه. وتأكيداً لهذا المعنى جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ”، (رواه أحمد والحاكم والبيهقي)، وقال سعد بن هشام: (دخلت على عائشة رضي الله عنها وعن أبيها فسأَلتها عن أخلاق رسول الله فقالت: أَمَا تَقرَأ القرآن؟ قلتُ: بَلَى، قالت كان خلق رسول الله القرآن).
فما هي محاسن الأخلاق التي حث رسول الله معاذاً على التخلق بها؟
يقول الإمام الغزالي: (وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثير الحياء قليل الأذى كثير الصلاح صدُوق اللسان، قليل الكلام كثير العمل، قليل الزلل قليل الفضول، برّاً وصولاً وقوراً صبوراً شكوراً، راضيا حَليِما رفيقاً عفيفاً شفيقاً، لا لعانا ولا سباباً ولا نماما ولا مغتابا ولا عجولا ولا حقوداً ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشاشا هشاشا يحب في الله ويبغض في الله، ويرضى في الله ويغضب في الله. فهذا هو حسن الخلق)، (الإحياء ج 3/75)
وإذا نظرنا إلى الواقع الاجتماعي لحياة الأمة وجدنا أن الأسرة المسلمة تخلت عن دورها في رعاية الأبناء الرعاية الدينية والخلقية المتمثلة في القدوة الحسنة والإشراف والنصح والتوجيه، لغلبة ما يتأثر به الأطفال من الشارع ووسائل الإعلام، وكذا شيوع تيار الإلحاد بالجامعات. ولا يتم إصلاح أوضاعنا إلا بمناهج تربوية بمنظور فلسفة إسلامية تجسد هويتنا في سياستنا وتربيتنا وسائر معاملاتنا، دون التغافل عن قيمة القدوة الصالحة التي يجب أن يجدها الناشئة في الآباء والأمهات والمدرسين والمسؤولين. والرسول كان خُلُقه القرآن، فَلْتَكُنْ لَنَا فِي رسول الله الأسوة الحسنَة. والله هُو الهَادِي إلى سواء السبيل.