ذ. فريد أمعضـشو
1 – التعليم بين عالمين :
لقد أمْسى من المسلَّمات أن التعليم قاطرة التنمية الشاملة في أي بلد.. أقصد التعليم الناجع والفعّال الذي يستهدف تكوين مواطنين صالحين منفتحين على العالم انفتاحاً إيجابيا واعيا بقدْر تشبُّثهم بهُويتهم الأصيلة. ولذا، حَرَصت جميع الأمم –وما تزال– على الاهتمام به من كافة النواحي، وتوفير شروط ممارسته؛ ليكون، فعلا، في مستوى كسب الرهانات، وتحقيق تطلعات الناس. إلا أن الثمار المُحصَّلة من ذلك كانت شديدةَ التبايُن بين العالمين المتقدم والمتخلف. وهذا ما تكشفه، بوُضوح، التصنيفات الدَّوْلية للأنظمة التعليمية، في بلدان المعمورة كلها، والتي تصدر دوريّا. وهي –دائماً– تُبوِّئ التعليم في الغرب، بشقيه الأوربي والأمريكي، مكانَ الصدارة، لاعتبارات موضوعية لا جدال فيها. على حين نُلْفي تعليمَ أمة «اقرأ» في مراتب مُؤسِفة حقّاً!
إن التعليم في العالم العربي يعيش، منذ أمد بعيد، أزماتٍ خانقةً، متعددةَ المظاهر والأبعاد، رغم الاعتمادات المالية الضخمة التي تُرْصد له في كثير من بلاده. وحين نُمْعن النظر فيه ندرك جيّدا أن التأثيرات الخارجية فيه من الكثرة بمكان، ولعلها من أبرز أسباب تأزمه وتخبُّطه حتى أضحى أشبهَ بذلك الغراب الذي أراد التخلص من مشيته المعيبة، وتقليد مشية الحمامة؛ فإذا به – في المآل – يَفقد مشيته الأصلية، ويخفق في إتقان مشية المقلَّد! وهذا يجرّنا جَرّاً إلى الحديث عن أثر التيار التغريبي في أنظمتنا التربوية والتعليمية، الذي يعود، في الواقع، إلى زمن ليس بالقريب، إلا أنه لم ينقطع، مُنذئذٍ، بل ظل مستمرّا بوتيرة أقوى، وبصور أكثر تنوعا وتأثيرا!
2 – تغريب التعليم في العالم الإسلامي والبداية من مصر :
قدْ نستطيع إرجاع بدايات تأثير تيار التغريب في التعليم العربي والإسلامي إلى مطلع القرن التاسع عشر في مصر، حين عمَدَ محمد علي باشا إلى تدشين سلسلة من الإصلاحات في أفُق بناء مصرَ حديثةٍ وقوية، في شتى الميادين، بما فيها – طبعاً – التعليم، بل إنه كان القطاع الذي حظي بالأولوية في مخطّطه الإصلاحي الشامل؛ لانبناء الإصلاحات الأخرى عليه حتماً. فقد ارتأى أن التعليم السائد، إبّانئذ، في الأزهر، وفي غيره من المعاهد والمؤسّسات، متخلّفٌ، وغيرُ قادر على الرقيّ بالمجتمع والدولة، في ظل التحديات الكثيرة التي كانت تُجابهها داخليا وخارجيا. لذا، اقتنع بضرورة الأخذ بأسباب تطويره وتحديثه ليكون أقدرَ على إعطاء مُخْرَجات ذات فاعلية وتنافسية، وتيقن من أن ذلك لن يحصل إلا بالاستفادة من التجارب التعليمية الرائدة في العالم عصرئذ؛ فقرّر إرسال بِعْثات طلاّبية إلى الغرب – فرنسا في المحلّ الأول –، بلغ عدد أفرادها – طَوالَ فترة حُكمه – حوالي 320 طالباً، صُرف عليهم، من مالية الدولة، أزيد من 220 ألف جنيه مصري. وقد اطّلع هؤلاء على نمط حياة الغرب، ومظاهر حداثته وتقدمه، ولمسوا الأثر الحاسم لنظامه التعليمي في تحقيق هذه المُنجَزات التي أبْهرتهم، وتركت فيهم آثاراً غائرة ظلت تفعل فعلها فيهم حتى بعد عودتهم إلى بلدهم.
وبالطبع، فبمجرد هذه العودة تلقّفتْهُم دولة محمد علي، آمِلةً في الإفادة من الخِبْرات والمكتَسَبات التي حصّلوها خلال تتلمُذهم للغربيّين؛ فبادرت بتوظيفهم في مختلِف القطاعات التي كان يُراهَن عليها لتطوير مصر والنهوض بها، وفي طليعتها التعليم، بعدما أنشأت عدداً من المدارس المدنية الحديثة، والمعاهد العليا المتخصصة في الطب والهندسة والبيطرة والزراعة والصناعة والحرب والفنون والألْسُن. وكانت هذه البوّابةَ التي تسلّل منها التيار التغريبي إلى التعليم المصري؛ لأن أولئك الطلاب العائدين مارسوا مهامّهم الجديدة تحت تأثير التعليم الذي تلقوه في الديار الغربية، وتراجَع – بالمقابل – التعليم الأزهريّ، الذي فُرض عليه التفرغ – تعسُّفا وظلما – لتلقين ما له صلة بالدين والشريعة! طبعا، الدين كما أراده المتنفِّذون في الدولة. وهُدِّد كل عالم أو متعلم أزهري ثبتت مخالفته للتوجهات الرسمية بالطرد من هذه المؤسسة العريقة.
وأستحضر هنا الخطاب الشهير الذي وجّهه الخدّيوي عباس إلى علماء الأزهر، راسماً الرقعة المسموح لهم بالتحرك فيها، والأدوار المُوكَلَة إليهم، داعيا إياهم إلى الابتعاد عن كل مسبِّبات الفوضى والشغب؛ إذ جاء فيه قوله: «أول شيء أطلبه أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدا في الأزهر، والشغب بعيداً عنه، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد وشغب الأفكار؛ لأنه مدرسة دينية قبل كل شيء… إن كل ما يهمّ الحكومة من الأزهر اسْتِتْباب الأمن فيه… وأطلب منكم أن تكونوا دائماً بعيدين عن الشغب، وأن تحثوا إخوانكم العلماء، وكذلك الطلبة، على ذلك».
بعد هذه الخطوة التي عُدّت – لدى كثيرين – بداية الهجمة التغريبية على النظام التعليمي في العالم العربي، ستَتَوالَى مساعي الغرب الإمبريالي لتخريب الهُوية الإسلامية، وإخضاع البلاد العربية واستغلالها واستنزاف خيراتها، مسنوداً – في ذلك – بكوادِرَ من هذا البلاد نفسِها، مُستلَبةٍ ومنبهرة – إلى أقصى الحدود – بمظاهر الحداثة الغربية البرّاقة الخادعة. ولم يكن الغرب يتوانى في استخدام أي وسيلة تضمن له الوصول إلى مبتغاه، بما في ذلك الإغراءات والمساعدات والضغوط.
وظل التعليم أحد أبرز المجالات التي انصبّ عليه اهتمامُ الهجمة التغريبية؛ فسَعَتْ إلى إضعافه، وإبعاده عن هويته العربية والإسلامية؛ بالتضييق على تدريس العلوم الشرعية واللغة العربية في مؤسساته، والنظر باستخفافٍ إلى مُخْرَجاته، ووصْفها بالتخلف والقصور عن مواكبة التطورات المستجدّة، والعجز عن التأثير الحقيقي في المحيطين الداخلي والخارجي…
والواقع أن القُوى الإمبريالية الغربية لم تنقل معركتها إلى ساحة التعليم إلا بعد تأكُّدها من محدودية الخيار العسكري، ومن عدم نجاعة استخدام القوة، في إخضاع الآخَرين، وضمان تبعيتهم؛ لأن هذه القوة (العنف) حتى وإنْ نجحت في إخضاع الأبدان قسْراً، إلا أنها لا تقدر على مِثل ذلك حين يتعلق الأمر بالعقول والأذهان. وقد بدا للقوى الإمبريالية أن الرهان على تغريب التعليم وعَلْمنته وفصله عن هويته وأصالته الراسخة وَحْده القَمين بالسيطرة على الفكر والعقل. وهو وحده الذي يضمن استمرارية تبعية المُستعْمَر للمُستعْمِر بعد جلاء هذا الأخير ورحيله عسكريا وماديا. ولذا، نرى أن الاحتلال – بمفهومه التقليدي – قد صُفّي بعد منتصف القرن الماضي، ولكنّ مؤشرات وتجليات كثيرة توحي باستمرار تأثيره في المجتمعات المتخلفة بصور مقنّعة و»مُتَفَنَّن فيها». ومن هنا، يؤكد دارسون كُثْرٌ أن استعمار الغرب للعالم العربي لم يتوقف منذ أنْ حصل، وأنه إنْ كان خرج من الباب فقد دخل من النافذة؛ كما يُقال!.. هو – إذاً – استعمار غير مباشر .. استعمار ثقافي وفكري قاسٍ، يسْتتبع – بالضرورة – الموالاة له في باقي المجالات!
3 – بعض مظاهر تغريب التعليم في الوطن العربي :
إن تغريب التعليم في الوطن العربي يتجلى في عدة مظاهر، ويَمَسّ عدة جوانب؛ بدءاً بالهندسة البيداغوجية وهيكلة مسار التعليم وأطواره، مروراً بالمناهج والبرامج والمحتويات وطرائق التدريس ومقارباته الديدكتيكية، وانتهاءً بصيغ التقويم والإشهاد، دون إغفال أمور أخرى ذات صلة؛ كالزِّيّ مثلا، لأنّا نجد، أحياناً، مؤسسات تعليمية في العالم العربي تفرض لباساً بعينه على التلاميذ والطلاب يُحيلنا على نسق ثقافي غير عربي ولا إسلامي. وتحضرني، ها هنا، التجربة التونسية في منع ارتداء الحجاب داخل المدراس والجامعات والمعاهد على عهد الرئيس المخلوع زيد العابدين بن علي، وقد بدأت هذه الحملة سنة 1981، استناداً إلى نص قانوني، صدر في عهد الحبيب بورقيبة، عَدَّ الحجاب «زيا طائفيا»؛ وعليه، يحظر ارتداؤه في المؤسسات التعليمية، رغم معارضة شريحة عريضة من الشعب التونسي لهذا القرار اللاديمقراطي ! وتجد أدلة أخرى كثيرة على هذا التغلغل الأجنبي في المنظومة التعليمية في بلدان عربية عدة، مشرقا ومغربا؛ مما يؤكد استحكام التغريب، ونجاحه في تثبيت أقدامه، ونفث سمومه في تعليمنا؛ الأمرُ الذي عمّق أزمته، وأفقده استقلاليته، وإنْ تظاهَرَ الغرب بأنّ ما يقوم به من مبادرات تُجاه هذا التعليم إنما هو بدافع تحديثه وتطويره وتجويده والارتقاء به ليكون قادراً على الاندماج في السياق العولمي، ومسايرة المستجِدّات المُلحّة.
وقد وجد هذا التيار التغريبي مناصرين يُطبِّلون له، من أبناء جِلْدتنا، ويُعدّدون «حسناته» وأفضاله المزعومة على التعليم العربي عموماً، وكذا الامتيازات التي يُتيحها، بما فيها ضمان الوصول إلى مراتب عليا في الوظيفة والمجتمع… إلا أنه لقي معارضة كثير من المثقفين، فضلا عن عامة الشعب؛ بالنظر إلى خطورته البالغة على هويتنا الحضارية، ومقوّمات أصالتنا. ويشدّد هؤلاء على ضرورة انطلاق مشاريع الإصلاح التعليمي، في العالم العربي، من الذات، مُراعِيةً خصوصياتِنا وحاجياتِنا وقِيمَنا، بعيداً عن أي إسقاطات خارجية أو ضغوطات لفرْض نماذج تعليمية أجنبية (فرنسية – إنجليزية…) داخل بلداننا. و«فرْقٌ بين أن تمارس هذه البلدان نقدا ذاتيا تحاول من خلاله إعادة النظر في منظومة التربية والتعليم بالاستناد إلى منظومة القيم التي تؤمن بها، وبين أن تكون تحت ضغوط سياسية واقتصادية تدفعها إلى إعادة النظر في منظومة القيم ذاتها، وتحاول أن تقنع نفسَها ومحيطها بضرورة إعادة صياغة سؤال القيم، فتقول: ما هي القيم التي ينبغي أن تحكم نظامنا التربوي؟ ومن ثَمَّ ما هي القيم التي ينبغي أن تحكم المجتمع؟» (د. خالد الصمدي).
تِلْكُم – إذاً – نظرات حول قضية التغريب في أنظمتنا التعليمية، التي برزت في العقود الماضية، وتَخِذَت صوراً عدة أكثر تأثيرا من ذي قبلُ، وتوخّت – في جوهرها – عَلْمَنة تلك الأنظمة، وإفراغ محتواها، والتشكيك في قدراتها الذاتية على العطاء والإنتاج، وإبعادها عن هويتها… متوسِّلة بمختلف الوسائل، مع جُنوحٍ أوْضَحَ إلى تلك التي تبْعُد عن التصريح بالنّيات الحقيقية، وعن استخدام خيارات الضغط المباشر بالقوة أو غيرها. ولا يكاد هذا التيار التخريبيُّ يفوّت فرصة سانحة دون الحديث عن مزايا أنموذجه التعليمي، التي تؤهّله – حسب زعْمه – لأنْ يكون مصدر استلهامٍ بالنسبة إلى الأنظمة التعليمية في البلدان الأخرى غير المتقدمة.