د. بدر عبد الحميد هميسه
لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة جديدة لبناء دولة الإسلام، وإعزازاً لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين.
لذا فإن دروس الهجرة الشريفة لا تنتهي ولا ينقطع مداها، فمن هذه الدروس والعبر:
1 – المؤمن يحسن التوكل على الله تعالى:
وحسن التوكل على الله تعالى، يعني صدق اعتماد القلب على الله في دفع المضار وجلب المنافع، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي إلا الله ولا يمنع إلا الله ولا يضر ولا ينفع سواه، قال تعالى : وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (الطلاق: 2) ، وقال : «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» رواه أحمد.
يقول داود بن سليمان رحمه الله: (يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات).
ولقد كان في رحلة الهجرة الشريفة متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها. بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان.
فالقائد: محمد، والمساعد: أبو بكر، والفدائي: علي، والتموين: أسماء، والاستخبارات: عبد الله، والتغطية وتعمية العدو: عامر، ودليل الرحلة: عبد الله بن أريقط، والمكان المؤقت: غار ثور، وموعد الانطلاق: بعد ثلاثة أيام، وخط السير: الطريق الساحلي. وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وأخرا.
2 – الصبر واليقين طريق النصر والتمكين:
أصحاب الرسالات في هذه الحياة لا بد أن تواجههم المصاعب والمتاعب والمحن والابتلاءات، قال تعالى : الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (العنكبوت:1 – 3) ، وعَنْ سَعْد بن أبي وقاص قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ : “الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. (رواه الترمذي).
فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي وأصحابه بمكة يهيئ الله تعالى لهم طيبة الطيبة، ويقذف الإيمان في قلوب الأنصار، ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين، قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَومَ يَقُومُ الاشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (غافر:52).
وإن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره والأذى. لكن من صبر ظفر، ومن ثبت انتصر.
ولقد ثبت النبي وأصحابه على أذى قريش وكان يطمئنهم بأن النصر قادم، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ، وَهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ، فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ، لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ. (رواه البُخَارِي).
وفي الهجرة المباركة لما خاف الصديق على رسول الله من أذى قريش، وقال لرسول الله : “لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ” رفض الرسول هذه الرسالة السلبية وقال له في ثبات المؤمن ويقينه بربه: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا».
فأنزل الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة : 40).
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان
3 – الله تعالى يؤيد رسله بالمعجزات :
الله تعالى قد يبتلي أولياءه وأحبابه من أصحاب الرسالات والدعوات بالمحن والشدائد، ولكن لا يتركهم لتلك المحن والشدائد حتى تعصرهم، بل يمحصهم، ويرفع من قدرهم، ثم يؤيدهم بالمعجزات التي تثبت صدق دعواهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (الحج: 38).
وفي رحلة الهجرة الشريفة تجلت معجزات وآيات وبراهين تؤكد صدق دعوى النبي صلى الله عليه وسلم، فهل رأيتم رجلاً أعزلاً محاصراً يخرج إلى المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي.
وهل رأيتم عنكبوتاً تنسج خيوطها على باب الغار في ساعات معدودة.؟
وهل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب فلا يطأطئ أحدهم رأسه لينظر في الغار؟..، هل رأيتم فرس سراقة تمشي في أرض صلبة فتسيخ قدماها في الأرض وكأنما هي تسير في الطين..؟ هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر ضرعها باللبن؟.
قال البوصيري:
وما حوى الغـــارُ مِن خيرٍ ومِن كَرَمِ *** وكُــلُّ طَرْفٍ مِنَ الكفارِ عنه عَمِي
فالصدقُ في الغــارِ والصدِّيقُ لم يَرِمَـا *** وهُم يقولون مـا بالغــارِ مِن أَرِمِ
ظنُّوا الحمــامَ وظنُّوا العنكبوتَ على *** خــيرِ البَرِّيَّـةِ لم تَنسُـجْ ولم تَحُمِ
وِقَـــايَةُ اللهِ أغنَتْ عَن مُضَــاعَفَةٍ *** مِنَ الدُّرُوعِ وعن عــالٍ مِنَ الأُطُمِ
إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى، وإذا أراد الله تعالى نصر المؤمنين خرق القوانين، وقلب الموازين.
4 – دور المرأة المسلمة في الهجرة الشريفة:
دور المرأة المؤمنة في تحمل أعباء الدعوة، دور كبير وعظيم فقد كانت خديجة رضي الله عنها الملجأ الدافئ الذي يخفف عن رسول الله . فحينما نزل عليه الوحي في غار حراء جاءها يرتجف ويقول زملوني زملوني، ولما ذهب عنه الرَّوْع. قال لخديجة : “قد خشيت على نفسي”. فقالت له: “كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”. متفق عليه .
ويتجلى دور المرأة المسلمة في الهجرة الشريفة من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزاً كاملاً، إلى غير ذلك مما قامتا به.
وهناك نساء أخريات كان لهن دور بارز في التمهيد لهذه الهجرة المباركة، منهن: نسيبة بنت كعب المازنية، وأم منيع أسماء بنت عمرو السلمية.
5 – الصداقة الحقيقية مبادئ ومواقف:
كان من فضل الله تعالى على نبيه محمد أن جعل أفئدة من الناس تهوي إليه، وترى فيه المصحوب المربي والمعلم، والصديق؛ مما جعل سادة قريش يسارعون إلى كلماته ودينه: “أبو بكر، وطلحة والزبير وعثمان وعبد الرحمان بن عوف وسعد بن أبي وقاص” متخلين بهذه المسارعة المؤمنة عن كل ما كان يحيطهم به قومهم من مجد وجاه، متقبلين في نفس الوقت حياة تمور مورا شديدا بالأعباء وبالصعاب وبالصراع.
ولقد توفرت في أبي بكر خصال عظيمة جعلته خير ناقل لأثر الصحبة، كان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، فحسن مجالسته هذا كان سببا في إسلام السابقين فجاء بهم إلى المصحوب الأعظم رسول الله فأسلموا وصلوا.
فالصحبة الصالحة لها أثرها البالغ في ثبوت الإيمان في القلوب.
فحينما عاد أبو بكر من رحلة التجارة وأبلغه القوم أن محمدا يزعم أنه يوحى إليه فأجابهم، “إن قال فقد صدق”، فما أن حط عنه عناء السفر حتى أقبل إلى النبي عليه الصلاة والسلام متأكدا من ذلك فما أن سمع منه حتى فاضت عيناه وقبل صاحبه الذي ما تردد في النطق بأعظم كلمة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
وحينما أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة، اختاره الرسول ليكون رفيقه في هجرته، وظلا ثلاثة أيام في غار ثور، وحينما وقف المشركون أمام الغار، حزن أبو بكر وخاف على رسول الله ، وقال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلي قدميه لأبصرنا، فقال له الرسول : “ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما” (البخاري). وهذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته . إن هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب على أهله ونفسه.
أخرج ابن عدي وابن عساكر من طريق الزهري وروى الحاكم في مستدركه ج 3/ ص 82، عن أنس : قال رسول لحسان بن ثابت: “هل قلت في أبي بكر شيئاً؟ فقال: نعم. فقال: “قل وأنا أسمع”. فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد *** طاف العدوّ به إذ صعَّد الجبلا
وكان حِبِّ رسول اللّه قد علموا *** من البرية لم يعدل به رجلاً
فضحك رسول اللّه حتى بدت نواجذه، ثم قال: “صدقت يا حسان هو كما قلت”.
فلقد ضرب الصديق مثلا رائعا في أن الصداقة مبادئ ومواقف، وليست شعارات وأقوالا.