ذ ـ صهيب مصباح
ارتبطت حياة علماء الأمة ببلاغ الرسالة التي ورثوها عن الأنبياء، رسالة تحمل في سطورها كل المعاني النبيلة التي أرشد إليها الدين الإسلامي الحنيف، ولذلك كانت دائرة اشتغال العلماء واسعة النطاق متكاملة الآفاق، والمتتبع لسير علمائنا يلحظ جليا تركيز عنايتهم برسالة التربية على الآداب الرفيعة والأخلاق الحميدة، موازاة لاهتمامهم بدروس العلم أخذا وأداء، وهو ما يفيد ضرورة المزاوجة بين رسالتي التربية والتعليم في عملية البلاغ بشكل عام، وقد تجلى هذا المنهج على كتابات أبي الوليد الباجي وأبي حامد الغزالي وغيرهما من أعلام الأمة، ومن خلال هذا المقال سنحاول الوقوف على أهم الأبعاد التربوية التي تميزت بها رسالة أبي الوليد لولديه.
- على عتبات هذه الرسالة :
فما إن وقع بصري على هذه الخريدة، حتى أسرعت أتضارب وصفحات المصادر، إلى أن وقفت على ترجمان الفقه والأصول، ترجمان المعقول والمنقول، الإمام العلامة الحافظ ذي الفنون، القاضي أبي الوليد سليمان بن خلف، بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، الأندلسي، القرطبي الباجي، صاحب التصانيف، البطليوسي الأصل، تحول جده إلى باجة، فنسب إليها، ولد سنة ثلاث وأربعمائة، وتضلع في مختلف العلوم والفنون على كثير من المشايخ، فحج، ثم ارتحل إلى دمشق في إطار بحثه على المعرفة والسماع، ومنها إلى بغداد، فلقي من علمائها الكثير، وأخذ من العلم ما يشفي الغليل، ثم رجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم غزير.(1)
وإبرازا لمكانة هذا العلم العالم، الذي ملأ الدنيا فقها واستنباطا، وشغل الناس بتواليفه، نورد ما قاله الإمام القاضي عياض اليحصبي في معرض الحديث عن مكانته العلمية، قال:«كان أبو الوليد رحمه الله تعالى فقيها نضارا محققا راوية، محدثا يفهم صنعة الحديث ورجاله، متكلما أصوليا، فصيحا شاعرا مطبوعا حسن التأليف، معين المعارف، له في هذه الأنواع تصانيف مشهورة جليلة، ولكن أبلغ ما كان فيها في الفقه وإتقانه على طريقة النضار من البغداديين وحذاق القرويين». (2) وكما كان عارفا بالعلوم، فقد كان ذا ذوق كبير في مجالات التربية والسلوك، وكتابه «النصيحة» (3) أكبر دليل على شخصية الرجل التربوية، وقد رمينا من خلال هذا المقال تسليط الضوء على هذه «النصيحة» من أجل أن نستشف أبعادها التربوية الكفيلة بضبط سلوكيات الفرد في المجتمع.
- رسالية رسالة أبي الوليد الباجي لولديه :
النصيحة اسم على مسمى، رسالة تحمل في طياتها وظيفة تربوية دعوية قائمة على العلم والتعليم، وإذا أردنا أن نرجع بالعجلة إلى الماضي، فإننا سنجد نظير ما فعل الباجي متمثلا في شخصية اقتبست الوحي من في رسول الله ،إنه أبو هريرة ، فقد أشار إشارة لطيفة في هذا السياق، وهي مبادرته التربوية الإصلاحية ذات الطابع التعليمي، قام بها شخصيا لتوجيه جيل التابعين، وذلك أنه مر بسوق المدينة، فوقف عليها فقال: يا أهل السوق ما أعجزكم، قالوا وما ذلك يا أبا هريرة؟ قال: ذلك ميراث رسول الله يقسم وأنتم ها هنا ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه، قالوا وأين هو؟ قال في المسجد، فخرجوا سراعا ووقف أبو هريرة حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فلم نر فيه شيئا يقسم، فقال لهم أبو هريرة : وما رأيتم في المسجد أحدا؟ قالوا بلى رأينا قوما يصلون، وقوما يقرءون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة : ويحكم فذاك ميراث محمد ،(4) ولا يخفى ما تضمنه هذا الحدث من إشارات تربوية متصلة بالمسجد، باعتباره مدرسة التربية على الأخلاق النبوية، ومدرسة تعليم الدين.
إن رسالة أبي الوليد لولديه – أبي القاسم وأبي الحسن -(5)، لهي رسالة تربوية تعنى بتسديد المنهج التعليمي والتعلمي، كما تعنى بالدعوة إلى ربط العلم بالعمل، والروح بالجسد، لتكون جملة من القواعد التربوية يهتدى بها إلى التدرج في مقامات الدين، ومدارج الوصول إلى الحق واليقين.
إنها رسالة سماها صاحبها، «وصية الإمام الحافظ أبي الوليد الباجي لولديه» لتكون نصيحة له لولديه تضمنت إشارات عباداتية ومعاملاتية، تهدي إلى تعبيد الطريق لمن أراد السير في مقامات الهدى المنهاجي، للتوصل إلى منازل العرفان العلمي والروحي، رغبة من أبي الوليد في ترك بصمات التربية السلوكية في شخصية ولديه، ورجاء في استدامة الصدقة، ف «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»، «…وولد صالح يدعو له» (6) وفي هذا المعنى أقول:
تسابـــق يا أخي في بنـــــــاء
بيت كبيت النبي في إخــــــــــــاء
إذا مت فـــــلا ترجـــو نصيبا
من ذي، يا صــاح إلا من إيصـاء
غــلام أو علــوم لا سواهــــــا
هــكـذا قـــال النبي في رجــــــــــاء
- قراءة تربوية في فقرات رسالة أبي الوليد لولديه :
هيا بنا نطرق باب هذه الصفحات، التي إن قل عدُّها فقد كثر حدها، وإن يسر فهمها فقد صعب ضبطها ونهجها، وإذا وعيناها وعيا تنزيليا، فإننا سنجد مضمونها لا يخرج عن كونه يخط منهجا لإصلاح الأرواح، كما يخط منهجا لضبط السلوك مع الشخص نفسه ومع الغير، وبالفعل فإن أول ما صدر به الإمام رسالته هذه قوله: ” وتنقسم وصيتي لكما قسمين؛ فقسم فيما يلزم من أمر الشريعة، أبين لكما منه ما يجب معرفته، ويكون فيه تنبيه على ما بعده، وقسم فيما يجب أن تكونا عليه في أمر دنياكما” (7)
أما القسم الأول فقد عرض فيه ضروريات الدين وركائز الإيمان؛ من الإيمان بالله وملائكته، والتمسك بالكتاب، وأداء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.(8)
فهي عبارات تبرز من خلالها الوصايا التشريعية والعباداتية بالمنطوق، وهذا معقول المعنى، لأن المشرع الحكيم أكد على الوفاء بالمعلوم من الدين بالضرورة، كما جعل سنية التفاوت المقاصدي واجبة الاعتبار في العبادات والمعاملات.
وما إن فرغ المؤلف من الحديث عن ركائز الإيمان، حتى أردف ذلك بالحديث عن العلم والحث في طلبه. والمناسبة بين ذا وذاك جلية وواضحة، فإن الحق جل جلاله لا يعبد عن جهل، فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك (محمد 19) فحث على الاجتهاد في طلب العلم، وجعله ولاية لا يعزل عنها صاحبها، لأن المعنى لا يسلب من صاحبه إلا بسلب روحه، كما ذكر عقب هذا مفاضلة قيمية بين العلوم، فجعل أصول الفقه بعد الوحيين في المنزلة، وأبدى بمقاربات أولوية بين المعارف الإسلامية، وأردف ذلك بالحديث عن الصفات الحميدة والذميمة التي ينبغي لطالب العرفان أن يتحلى بالأولى وينزاح عن الثانية.
لتكون هذه المعاني مدلولات كلية تؤطر المسار القويم لطالب الهدى المنهاجي للوصول إلى درجات اليقين، ومما ينبغي أن نستشفه من هذه الفقرة، تركيز الإمام أبي الوليد على المحافظة على أصول الدين الكبرى وضرورياته التي يقوم بها، محافظة واعية لا محافظة منساقة مساقات الهوى والإرادة المطلقة، ليخلص رحمه الله تعالى إلى تأسيس قاعدة ربط العبادة بالمعرفة، من أجل تفادي منزلقات التفريط والإفراط في مجال الروح والمادة من هذا الإنسان.
وفي القسم الثاني من رسالته تعرض إلى أمور الدنيا، وهو الجانب المعاملاتي والسلوكي مع الغير ماديا ومعنويا، فحذر من الدنيا وحطامها الذي لا يزال يفنى كما يفنى بنو آدم، وزهد فيها ومتاعها، وحذر من الاستكثار منها، فقال: “وإياكما والاستكثار من الدنيا وحطامها، وعليكما بالتوسط فيها”.(9)
ومن هنا تتجلى رسالية هذه الرسالة الموجزة، إنها رسالة تحمل معاني كلية لضبط منهج السالك إلى درجات الهدى واليقين، رسالة مزجت بين المعقول والمنقول في الدلالة، وبين المادة والروح في تنزيل الخطاب، رسالة حاول صاحبها من خلال فقراتها أن يربط الماضي بالحاضر، ويكسر أسوار القرون، ليبني دلالات تربوية دعوية عارية من قيود الزمان والمكان والإنسان، إنها تذكرة لمن أراد أن يتذكر ويتدبر معاني التربية في المنظومة الإسلامية.
ومن هنا نقول : إن العناية بمجال التربية والسلوك تنظيرا وتفعيلا، من أهم الأولويات التي ينبغي للعقل المسلم أن يصرف نظره وفكره نحوها، لما للتربية على الهدى المنهاجي الذي رسم خطوطه القرآن الكريم، وبينت مساراته السنة الشريفة من أثر على الإنسان في أبعاده التفكيرية والتدبيرية والتعبيرية، ولَمَّا كانت التربية على السلوك الحميدة بهذه الأهمية العظيمة كانت عناية العلماء سلفا وخلفا بها عناية كبيرة، بل إن العناية بالتربية كلية اتفقت عليها كل المذاهب الفكرية والدينية، لكن لما تباينت توجهاتها واختلفت منظوماتها المرجعية، تباينت بالضرورة نتائجها على الوسط التربوي، لتكون لمرجعية الإسلام الأولوية المطلقة في تدبير منظومة الأخلاق.
————
(1) ترتيب المدارك للقاضي عياض ج 8ص117 منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب. سير أعلام النبلاء للذهبي ج18 ص 542 مؤسسة الرسالة ، الديباج المذهب لابن فرحون ص200 دار الكتب العلمية.
(2) ترتيب المدارك ج 8 ص 117.
(3) الديباج لابن فرحون ص200.
(4) رواه أبو الطبري في الأوسط وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب 1 /58 .
(5) وقد توفي أبو الحسن قبل وفاة أبيه، أما الأول فقد خلف مجلس أبيه وكتب شعره.
(6) أخرجه الترمذي في السنن 1390وقال حديث حسن صحيح .
(7) انظر نص الوصية عند فريد الأنصاري في كتابه مفهوم العالمية ص 199دار السلام.
(8) المرجع السابق ص 199 وما بعدها .
(9) أنظر نص الوصية ص 220 من كتاب مفهوم العالمية.