تتفق كتب التاريخ والتراجم أو تكاد أن أمير المومنين هارون الرشيد كان يحج عاما ويغزو عاما، وكان رحمه الله يستعد لغزوه بالسلاح والرجال، كما كان يستعد لحجه بزيارة العلماء، واستنصاح الفضلاء، واستشارة الأتقياء، فقد روى أبو عمر الجرمي النحوي قال: حدثنا الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين هارون الرشيد فأتاني، فخرجت مسرعاً فقلت: «يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي لأتيتك». فقال: «ويحك! قد حك في نفسي شيء فانظر لي رجلاً أسأله فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة»، فقال: «امض بنا إليه»، فأتيناه، فقرعت الباب، فقال: «من هذا؟»
فقلت: «أجب أمير المؤمنين».
فخرج مسرعاً فقال: «يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي لأتيتك».
فقال له: «خذ لما جئناك له رحمك الله»، فحدثه ساعة، ثم قال له: «عليك دين؟» قال: «نعم»، فقال: «اقض دينه». فلما خرجنا قال: «ما أغنى عني صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله» فقلت: «ها هنا عبد الرزاق». (فذكر مثل ما جرى له مع ابن عيينة)
فقلت «ها هنا الفضيل بن عياض»
قال «امض بنا إليه»
فأتيناه فإذا هو قائم يصلي، يتلو آية من القرآن يرددها.
قال: «اقرع الباب»
فقال: «من هذا؟»
فقلت: «أجب أمير المؤمنين»
فقال: «ما لي ولأمير المؤمنين؟»
فقلت: «أما عليك طاعة؟»
قال: فنزل، ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت. فدخلنا، فجعلنا نحول عليه بأيدينا. فسبقت كف هارون الرشيد قبلي إليه.
فقال الفضيل: «يا لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل»
قال الفضل بن الربيع: فقلت في نفسي: «ليكلمنه الليلة بكلام من قلب نقي»
فقال له هارون الرشيد: «خذ لما جئناك له رحمك الله»
فقال له الفضيل بن عياض: «إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاءً، وقد عددتها أنت وأصحابك نعمة». ثم ذكر ما أجابوا به عمر.
قال له سالم بن عبد الله: «إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن إفطارك منها الموت.
وقال له محمد بن كعب: «إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك».
وقال له رجاء بن حيوة: «إن أردت النجاة غداً من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت».
قال الفضيل: «وإني أقول لك يا هارون: إني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا؟»
فبكى هارون الرشيد بكاءً شديداً، فقلت له: «أرفق بأمير المؤمنين». فقال: «تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا».
ثم قال له هارون: «زدني رحمك الله».
فقال: «يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكى إليه، فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود للأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء. فلما قرأ العامل كتاب عمر، طوى البلاد حتى قدم على عمر فقال: ما أقدمك؟ قال: خلعتَ قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله»
قال: فبكى هارون بكاء شديداً. ثم قال: «زدني رحمك الله»
فقال: «يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله ! أمّرْني على إمارة؟ فقال له: إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استطعت ألا تكون أميراً فافعل، فبكى هارون بكاء شديداً.
فقال: «زدني رحمك الله»
فقال له: «يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي قال: من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة.
فبكى هارون الرشيد. وقال له: «عليك دين؟»
قال: «نعم، دين لربي لم يحسابني عليه بعد. فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي»
قال: «إنما أعني من دين العباد؟»
قال: «إن ربي لم يأمرني بهذا»، قال الله عز وجل: إن الله هُوَ الرزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
فقال له : «هذه ألف دينار خذها، فأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادتك»
فقال: «سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك»، ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده.
قال الفضل بن الربيع : فلما صرنا إلى الباب. قال هارون الرشيد: «إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين»
فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: «يا هذا! قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال، فتفرجنا به» فقال لها: «مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه»
فلما سمع هارون هذا الكلام، قال: «ندخل فعسى أن يقبل المال»، فلما علم الفضيل، خرج فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه ولا يجيبه. فبينا نحن كذلك، إذ خرجت جارية سوداء فقالت: «يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله». فانصرفنا.