كالمعتاد عند حلول المواسم الدينية الإسلامية الكبرى (رمضان والعيدين)، تبرز مسألة رؤية الهلال وما يتفرع عنها من اختلافات وتناقضات… ويبلغ هذا الاختلاف دوريا حدا غير مقبول. وقد احتفل المسلمون هذه السنة بعيد الأضحى في ثلاثة أيام مختلفة من الأربعاء 19 إلى الجمعة 21 دجنبر 2007. وسبقت دول المشرق العربي المغرب بيومين، وهو أمر مناقض تماما لأبسط مبادئ علم الفلك.
مصداقية الإعلانات
في السنوات القليلة الماضية، أثبتت عدة دراسات علمية أن كثيرا من الإعلانات التي تمت بشأن بداية الشهور القمرية في بلدان عربية كثيرة، كانت خاطئة من وجهة علم الفلك. وفي بعض الأحيان كانت الأخطاء فادحة إذ إن اقتران القمر بالشمس لم يكن قد تم بعد، مما يترتب عنه أن لا معنى لمجرد الحديث عن هلال جديد. وليس من المستغرب إذن أن نقرأ في هذه الدراسات أن نسبة الخطأ فاقت بكثير 50% في هذه البلدان!
والواقع أن الذي يزيد الأمر ضبابية هو أن كثيرا من الدول العربية تقرر الاعتماد على إعلانات الرؤية عند جيرانها وتعلن بدورها بداية الشهر. وينتج عن ذلك أن عدد البلدان العربية التي تسبق المغرب يكون عادة مرتفعا مما قد يوهم أن الرؤية قد تأكدت في تلك البلاد جميعا. لكن في الواقع تكون دولة واحدة في الغالب هي التي أعلنت الرؤية بينما الدول الأخرى متبعة فقط ولم تثبت فيها رؤية.
ويجب هنا أن نستبعد الدول التي تأخذ بمعيار حسابي لا علاقة له بالرؤية مثل ليبيا. فهي تعلن دخول الشهر إذا وقع اقتران الشمس بالقمر قبل الفجر، وتؤخر هذا الدخول يوما إذا وقع الاقتران بعد الفجر.
حالة هلال ذي الحجة 1428
كان الاقتران قد وقع الساعة الخامسة و40 دقيقة بالتوقيت العالمي الموحد من مساء الأحد 9 دجنبر 2007، وغرب القمر قبل الشمس في مجموع البلاد العربية. مما يعني استحالة رؤية الهلال ذلك اليوم في هذه البلاد قاطبة. في غضون ذلك أعلنت المملكة العربية السعودية مساء الأحد دخول الشهر بناء على شهادة على الرؤية. وحذت حذوها اتباعا دون تحقق الرؤية دول المشرق العربي المختلفة مثل دول الخليج وسوريا ومصر وكذلك تونس والجزائر. بينما تأخر دخول الشهر في بلدان أخرى مثل المغرب وباكستان وإيران والهند بيومين. ولم تثبت في كل هذه المناطق رؤية الهلال مساء الإثنين، ناهيك عن الأحد. هذا ونشير إلى أن الجالية الإسلامية في جنوب إفريقيا ذات التقاليد العريقة في مراقبة الأهلة أعلنت رؤية الهلال مساء الإثنين، وذلك مطابق تماما للتوقعات الفلكية ومرده إلى التباين الكبير في خطوط العرض بين جنوب إفريقيا والمنطقة العربية كما لا يخفى. وقد أصدر علماء الفلك المنضوون في “المشروع الإسلامي لرصد الأهلة” يوم 11 دجنبر بيانا تحت عنوان “إجماع الفلكيين العرب على استحالة رؤية الهلال يوم الأحد”، دعوا فيه السعودية إلى الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه.
اختلال في حساب الشهور وإعلانات مبكرة
وجدير بالذكر أن الإعلان المبكر عن رؤية الهلال في السعودية حالة تتكرر باطراد يدعو إلى الاستغراب. فمن المسائل المبرهن عليها في علم الفلك الكروي أن الهلال إذا رئي من مكان ما من الأرض فإن فرص رؤيته تزداد كلما اتجهنا غربا. فهو يبتعد أكثر عن الشمس التي تحجب بتوهج أشعتها رؤيته، ويزداد نورا بسبب ازدياد مساحة الجزء المنير المرئي من سطحه. والنتيجة المنطقية أن المغرب الأقصى حيث يتأخر غروب الشمس عنه في منطقة المشرق العربي كان يجب أن تكون رؤية الهلال فيه أسهل بعد أن رئي في السعودية، لو صحت هذه الرؤية. وبصفة عامة يتقرر في علم الفلك أن يسبق المغرب بلدان المشرق أو يبتدئ الشهر معها في يوم واحد. لكن الذي يحصل في الواقع هو العكس تماما، حيث يسبق نفس البلد دائما المغرب، ويعلن عن رؤية الهلال في ذلك البلد في حين لا يشاهَد في المغرب ساعات بعد ذلك. هذا مع ما هو معروف من الاعتناء بالرؤية عند أهل المغرب حتى أصبحت طريقتهم تحظى باحترام الأوساط المهتمة في مجموع العالم الإسلامي سواء من الفلكيين أو الفقهاء.
لقد رأى كثير من الناس في المغرب الهلال مساء الثلاثاء فاتح رمضان، ورأوه كبيرا مما جعل البعض يتحدث عن خطأ في الإعلان المغربي. وذلك غير صحيح، إذ إن الفارق الزمني بين لحظة الاقتران وغروب الشمس في المكان الذي تتم فيه المراقبة يمثل عاملا مهما في هذا الباب وإن لم يكن العامل الوحيد، وهو المعبر عنه بعمر الهلال. وقد كان عمر هلال ذي الحجة كبيرا عند رؤيته لأول مرة، لكن لا يترتب عن ذلك وقوع خطأ.
وكون الرؤية الأولى للهلال تعلن دائما في نفس الدولة، مسألة مريبة أخرى وهذا من غير الممكن في ميزان علم الفلك. فمدة دورة واحدة للقمر حول الأرض هي 29.53 يوما، وهذه القيمة هي معدل فقط وقد تزيد أو تنقص بما يصل إلى أكثر من ربع يوم. هذا علما بأن القمر لا يسير تماما في دائرة الكسوف (أو فلك البروج) التي تحل بها الشمس عبر أيام السنة، بل يترنح في مسيره حول هذه الدائرة بما يصل إلى 5 درجات من الجانبين. وإذا اكتفينا فقط بهاتين الملاحظتين الواضحتين nوهناك عوامل أخرى أعرضنا عن ذكرها هناn سنفهم تماما أن تكرر ادعاء الرؤية الأولى من نفس المنطقة دائما، غير سليم. وحتى مع عدم اعتبار الملاحظتين السالفتين، فلو كانت الرؤية الأولى تتم دائما من نفس المنطقة لكان من باب أولى أن يشاهد كسوف الشمس دائما من مناطق بعينها لا تتبدل!
ومن ناحية أخرى فإن الدول الإسلامية لا تراقب الهلال كل شهر، بل تكتفي بذلك بالنسبة لرمضان والأشهر الثلاثة الموالية حتى ذي الحجة. ولعمري إن هذه مسألة ما كان على هذه الدول أن تتساهل فيها، وهي معضلة أخرى تؤدي إلى اختلال حساب الشهور. فمن المعروف مثلا أن المملكة العربية السعودية لا تقوم بالمراقبة كل شهر، بل تتبع تقويما رسميا سمته “تقويم أم القرى”. وفي نهاية شعبان الفارط أصدر مجلس القضاء الأعلى بيانا جاء فيه : “نظرا لأن دخول شهر شعبان هذا العام لم يثبت ببينة واحتمال نقصان شهري رجب وشعبان وارد لذا فإن مجلس القضاء الأعلى فى المملكة العربية السعودية يرغب من عموم المسلمين فى هذه البلاد تحري رؤية هلال شهر رمضان المبارك مساء يوم الاثنين الموافق 28 / 8 / 1428هـ حسب تقويم أم القرى”. فلما لم ير مساء الإثنين ولا الثلاثاء فقد أعلن المجلس أن الأربعاء هو المكمل للثلاثين من شهر شعبان وأن أول يوم في رمضان هو الخميس الموافق 13 شتنبر 2007م. فعن أي إكمال يتحدثون إذا كانت الشهور غير مضبوطة بحيث يخرج الناس للتحري مساء اليوم 28 من الشهر؟!
وحتى تكتمل الصورة، فإن بعض الدول مثل الإمارات والأردن التي تابعت السعودية في بداية ذي الحجة قد أعلنت أن فاتح محرم هو الخميس 10 يناير 2008. فهل أصبحت لدينا اليوم شهور قمرية من 31 يوما ؟! يبدو أن هذه الدول عادت إلى تقاويمها بعد انصرام أشهر الحج ! بل حتى قبل ذلك، إذ إن وكالة الأنباء السعودية مثلا قد أعادت عقارب الزمن إلى الوراء بعد مضي ثلاثة أسابيع على دخول ذي الحجة وهي تصدر يوم الإثنين 7 يناير 2008 برقياتها بتاريخ 28 ذي الحجة عوض 29 كما يقتضيه إعلان الرؤية السعودي.
مسألة الشهادة
والحق الذي لا مراء فيه أن الرؤية بالعين لا يمكن أن تخالف بحال الوقائع العلمية الصحيحة. وإن تحليلا للتناقضات السابق ذكرها يبين أن المشكلة تكمن في قبول الشهادات على رؤية الهلال دون تمحيص. وكان اللازم أن يُسأل الشهود عن جهة السماء التي رأوا فيها الهلال، ومتى حدث ذلك، وكيف كان شكل الهلال المرئي، وإلى أي اتجاه كان يشير قرناه مثلا إلخ… وكلما كانت ظروف المشاهدة الجوية أو المتعلقة بالهلال نفسه صعبة أو حرجة، لزم التشدد في التمحيص والرجوع إلى أهل الاختصاص وهم الفلكيون. وبديهي أنه يجب رفض الشهادات التي تأتي بينما الاقتران لم يقع بعد رفضا باتا، من دون حاجة إلى تمحيص حتى… وليس مفترضا بالضرورة أن الذي شهد على رؤية الهلال مع قطع الحساب بعدم إمكانيتها هو كاذب. بل إنه قد يكون شاهد شيئا آخر غير الهلال لقلة التجربة وعدم ممارسة الرؤية لمدة طويلة أو لأسباب أخرى. وهناك حادثة معروفة في سيرة القاضي إياس الذي تحقق من شهادة الصحابي أنس بن مالك على رؤية الهلال بينما لم يره من كان معه، فوجد أنه رضي الله عنه وكان قد تقدمت به السنn إنما كان يرى شعرة من حاجبه اعترضت عينه !
وردّ الشهادة الخاطئة على الرؤية وارد عند الفقهاء، ذلك أنه كما تقرر عندهم فإن الشرع لا يقبل بالمستحيلات المقطوع باستحالتها. ففي المذهب المالكي جاء عند الشيخ خليل في المختصر “فإن لم يُر بعد ثلاثين صحوا كُذبا” (أي إن لم ير الهلال في حال الصحو بعد ثلاثين يوما من الشهادة الأولى على رؤيته، كُذب الشاهدان اللذان شهدا على دخول الشهر)، ولو أن هذا الإجراء هو من قبيل التكذيب البعدي الذي لا يعتمد الحساب. وقد حدث مثل هذا على عهد السلطان المولى الحسن الأول رحمه الله، حيث شهد مجموعة عند القاضي برؤية هلال شوال فأصبح السلطان والناس معيدين، ثم تبين الخطأ إذ لم ير الهلال مساء يوم العيد مع الصحو ! فقبض على الشهود في خبر طويل.
هذا وقد برز في المغرب منذ العصر المريني مجموعة من الفقهاء المشتغلين بعلم الفلك الراسخين فيه؛ ومع أنهم عارضوا الاعتماد على نتائج الحساب وحده دون الرؤية، فقد جوزوا الاستعانة به. قال العلامة الشريف سيدي مَحمد بن محمد العلمي في شرح “تقريب البعيد” : “عدم ثبوت الرؤية بقول الحاسب إنه يُرى، لا ينافي أن العالم بذلك من طرقه، تتيسر له أسباب تعين على الرؤية البصرية المعتبرة شرعا”. ولعل هذا التقليد الفقهي الفلكي المترسخ في المغرب هو الذي أصل للمنهجية المغربية في مراقبة الشهور التي تتم من حوالي 200 موقع تغطي مجموع البلاد، يشارك فيها أشخاص معينون كل شهر تكونت لديهم دراية بالموضوع.
حــل جـامع بين الفقه والفـلك
من المعروف أن جمهور الفقهاء من فجر الإسلام إلى يوم الناس هذا لا يعتبرون إلا الرؤية بالعين. وقد نظر هؤلاء الفقهاء إلى الرؤية البصرية باعتبارها طريقا تعبديا لا يمكن تركه إلى طريق آخر. ورأوا في ذلك اتباعا لهدي الرسول في قوله الذي رواه الإمام مالك ] : >لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين<. ورأى بعض قليل من فقهاء عصرنا أن العلة في تعليق الشارع الصوم برؤية الهلال بالأبصار هي كون الأمة زمنَ الرسالة لا تتقن الحساب الفلكي، فكان ذلك الحكم لرفع الحرج. فإذا تغيرت الأحوال وتمكنت الأمة من الحساب، ثم أصبح هذا الحساب يقينيا لا ظنيا، فإن لها أن تعتمده في تحديد بدايات الشهور. وممن قال هذا القول في عصر قريب الشيخ محمد رشيد رضا والمحدث أحمد شاكر والأستاذ علال الفاسي، رحمهم الله. ووجد أيضا من قال به في القديم، وهم قلة.
لهذا فإن الدول الإسلامية في غالبيتها العظمى تتبع قول الجمهور بلزوم تحقق الرؤية البصرية. لكن يبدو اليوم من الضروري لمواجهة فوضى الإعلانات عن بدايات الشهور عبر العالم الإسلامي، وبغية الحد من الآثار السلبية لهذه الظاهرة اجتماعيا ونفسيا، أن يتفق الفقهاء والفلكيون على أمر بات اليوم من تحصيل الحاصل. وهو أن يتم اعتبار الحساب الفلكي في الحالة التي يجزم فيها بأن رؤية الهلال بالعين مستحيلة (كأن يكون الاقتران لم يقع بعد أو وقع لكن القمر غارب قبل الشمس) أو غير ممكنة (حيث يكون الاقتران قد وقع والقمر غارب بعد الشمس لكن معايير الرؤية ذات المصداقية عند أهل الاختصاص تفيد قطعا عدم إمكانية تحقق الرؤية). وترد الشهادة في هذه الحالة. أما في الحالة التي يقرر فيها الحساب أن الرؤية ممكنة، فإن ممارسة الرؤية الفعلية التي يعتبرها جمهور الفقهاء وسيلة الدخول في الشهر الجديد، لهي كفيلة بالجزم مع الاحتياط اللازم في تمحيص الشهادات كما ذكرنا.