الإسلام دين الفطرة، فمن الطبيعي أن يكون دينا إنسانيا وعالميا بالفطرة. ومما يدل على ذلك أن كل من اعتنق هذا الدين بالولادة أو الاقتناع والهداية، وتفقَّه فيه حق الفِقه، يشعر بالسعادة والطمأنينة لا يشعر بها الكثير من الخلق الذين ليسوا على هذا الدين.
ومن رحمة الله تعالى بالعباد أن جَعَل كل شعائر الإسلام قائمة على الفطرة، وتخدم هذه الفطرة كما تخدمه االفطرة، فيصبح الإنسان بذلك آمناً مطمئنا “فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ” (الروم 29)، ذاكراً الله على كل حال، وحامدا له على كل حال “الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللًّهِ، ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد 29).
وإن شعيرة الحج إحدى الشعائر العظيمة التي تجمع الناس من كل حدب و صوب: “وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالا وَ عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق” (الحج 25) يجمعهم الإيمان والتوحيد، والاستجابة لهذا الأَذان، فترى الناس هناك بكل الألوان و اللغات و الهيآت والجنسيات، الكل قَطَع المسافات الطِّوال، والكل ضحَّى بما ضَحَّى به من أجل الوصول إلى هناك، والكل يذكر الله تعالى خاشعا له مُتَبَتِّلا خاضعا، والكل لا يرجو إلا ثواب ربه وغفران ذنبه، ويأمل أن يعود من هناك مغفورا له كما ولدته أمه.
شعيرة الحج بكل تجلياتها، في الطواف والسعي، وفي المبيت بمنىً والوقوف بعرفات، وفي الرمي ثم حتى في الوداع تُشْعِربأن الإسلام دين عالمي وأنه لم يكن كذلك إلا لأنه دين الفطرة.
شعيرة الحج بكل تجلياتها أيضا تُشعرك بعظمة الإسلام وقوته الذاتية، إذ أن كل من لَبَّى النداء لم يُلبّه لمصلحة دنيوية، وإنما ابتغاء وجه الله، وأَنَّ أغلب من لَبَّى النداء، ليسوا من العرب ولا العَرَبُ منهم وبذلك فإن من يربط بين الإسلام والعرب أو يدَّعي بأن الإسلام دين عربي، هم في الواقع قليلوعقل ودين، وبعيدون كل البعد عن فهم مقاصد هذا الدين وغاياته.
شعيرة الحج بكل تجلياتها تشعرك أيضا بقوة الجاذبية لهذا الدين، إذ أن هؤلاء الحجيج المختلفة ألوانهم ولغاتهم وجنسياتهم، والمتآلفة قلوبهم، اعتنقوا الإسلام عن اقتناع عقلي وحب عاطفي، وبذلك فإن الادِّعاء بأن الإسلامَ دينُ سيفٍ وقهرٍ ادعاءٌ لا أساس له من الصحة، فلو كان الأمر كذلك لما رأينا هذا الإقبال الكثيف على هذه الشعيرة. معا لعلم أن النسبة محدَّدَة لكل دولة، حتى بالنسبة للدول غير الإسلامية، وخاصة في هذه السنة.
شعيرة الحج تعبر بكل وضوح على قُدرة الإسلام على توحيد الناس ولمِّ شملهم مهما اختلفت أجناسهم ولغاتهم وأعراقهم، فالوقوف بعرفات -والحج عرفة ـ على صعيد واحد و بِزيٍّ واحد، ولغاية واحدة وهدف واحد، مع انمحاء كل الفوارق كيفما كانت، بما في ذلك المستوى الاجتماعي، يدل دلالة قاطعة على أن توحيد الأمة وجمع شملها – بل و الإنسانية جمعاء - لا يمكن أن يكون إلا على أساس هذا الدين.
فمتى نعي قيمة شعيرة الحج؟ – وغيرها من الشعائر أيضا – وندرك أنها بقدر ما هي شعائر عبادة، هي أيضا شعائر تؤدي عدة أدوار اجتماعية وسياسية واقتصادية.