1 ـ بعض من جذور وتفاصيل ملحمة الإنتصار : إن كل من يتابع بدقة مجريات الأحداث الدولية في السنوات الأخيرة ويثبت المجهر على الوقائع ذات الصلة بالعالم العربي والإسلامي لا بد أن يخلص إلى الحقيقة التي مفادها أن الاستعمار الغربي، وعربة القيادة الصهيونية في مقدمته، لم يغادر مقعد الدسائس والمؤامرات لتطويع العالم الإسلامي وإدخاله إلى الخُمّ الاستعماري كقطيع من الدجاج المسلوب الحول والإرادة. وقد شاء المولى سبحانه الذي قال في محكم التنزيل ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين أن ينقلب السحر على الساحر، وسندرك ذلك بالوقوف قليلا أمام بوابة التاريخ القريب، فقد تخلقت في الأعوام الأخيرة حركة تستوجب أكثر من علامة استفهام لموقع يدعى ويكيليكس كان من بين أهدافه المعلنة فضح العلاقات المريبة للقادة العرب بالكيان الصهيوني والدول العظمى ودسائسهم تجاه بعضهم البعض وكذا كل مظاهر الفساد الرديفة للشخصيات العامة والمسؤولة في البلدان العربية، مما شكل مادة هائلة لانشغال المسلمين بأسرار البيت الداخلي و عوراته. كما أنها كانت الفتيل التحريضي الأكبر للغضب الشعبي العربي وهَبَّاته «الربيعية» المفاجئة. وقد كشفت مصادر غربية عن وجود مجموعات اختراق صهيونية لوسائط العالم الافتراضي العربي بهدف إشعال المنطقة وتنزيل الغضب العربي في شكل فوضى شاملة. وكان ما كان من سقوط رؤوس وإيناع أخرى، وتغيرت معالم القيادات العربية ظاهرا في اتجاه إنصاف الشارع العربي قبل أن يتبين من انكشاف غبار الحراك العربي أن الأمر لم يكن بالبساطة التي أدخلت الشعوب في موجة من الفرح العارم لسماع صوتها وانجلاء كابوس الديكتاتورية المقيت عن صدورها، إذ سرعان ما ظهر إلى السطح منظر الفوضى العامة التي زحفت على خرائط هذه الشعوب بسقوط هيبة دولها وانتشار جيوش من البلطجية المبرمجين للسيبة في ربوعها، كما انبجست عن الحراك السياسي العربي جماعاتٌ وأحزابٌ هشة بلا عد، حملت كلها لواء الإنقاذ، فما زادت تلك البلدان إلا تمزقا ودمارا. وأثناء ذلك كانت الآلة الجهنمية الخفية التي سعرت لعبة الأمم في الماضي ترسم معالم التفتيت الجديد بإذكاء حِمَم الكراهية لتصفية حساباتها الأهم مع الإسلام بالنفخ في كل حدث همجي يرتكب باسم الإسلام، والشيطنة الإعلامية لشخوص مرتكبيه في اتجاه شيطنة الإسلام والمسلمين وبالموازاة كانت العين الشريرة جد يقظة للإجهاز في فترة ذهبية لن تتكرر على أقرب الأعداء: الشعب الفلسطيني وقيادته في غزة.
2 ـ وزهق الباطل وانتصرت غزة : والقصعة العربية المستباحة تفرش خيراتها للأكلة المتربصين وسيناريو الفوضى الخلاقة في العالم العربي يبلغ ذروته حيث الكل يقتل الكل، والعنوان العريض للسيناريو يتردد في كل الفضاءات «فتشوا عن الإسلام، لترسيخ عقيدة «الإسلام الإرهابي هو السبب»، كان فصل سحق السلطة الإسلامية بغزة يستوي على نار حامية والمهمة تتم بكل يسر بمباركة عربية وغربية بلا شك. وجاء الغزو الصهيوني لغزة بحجج وذرائع انساق لها الغرب بمبرر أمن إسرائيل كأولوية وخط أحمر وصفق له فريق عرب الانبطاح بحجة الحرب على الإرهاب الإسلامي وسرت في بعض التصريحات الرسمية العربية وكذا لبعض الإعلاميين الخونة تحليلات تبرر لإسرائيل حربها «الشريفة» على إفرازات الداعشيين من الحمساويين كما تتم تسميتهم سخرية بهم. وبدا رئيس وزراء كيان العدو الصهيوني غير محرج أيام انطلاق الغزو الغاشم لغزة العزلاء وهو يصرح بأنه يخوض الحرب بالوكالة عن العرب وحفظا لكيانهم من الهجمة الإرهابية الإسلامية الجديدة. وفي نفس التوقيت وكما لو بمجرد صدفة (مشكوك فيها)، برع «الداعشيون» بالعراق في التقدم القاسي على جماجم ضحاياهم تحت راية «لا إله إلا الله» بتسويق إعلامي مريب والشعب الفلسطيني يقصف ببربرية تحت ذريعة وقف «الداعشية» الفلسطينية في طبعتها الحمساوية المنقحة. لكن حبل الدجل قصير، والله من ورائهم محيط، إذ والعالم ينساق للعبة الأمم القاضية بضرب جيوب المقاومة العربية الإسلامية وخلطها المتعمد بالجماعات المتطرفة حقا، وتأليب الرأي العالمي الدولي ضدها بحجة القضاء على الإرهاب، تنزل نصر الله والفتح على الصوَّامين القوامين من حركة حماس والشرفاء من رموز النضال الفلسطيني بأطيافه اليسارية والقومية وغيرهم، وتداعت القلوب الفلسطينية في وحدة وطنية عجيبة لكسر الأسطورة الصهيونية، وانطلقت صواريخ الوحدة لتلجم الغرور الإسرائيلي في عقر كبريائه، وسقط سيناريو خلط الأوراق، إذ بدأت عملية جلاء المستوطنين الصهاينة عن مواقع الصواريخ الفلسطينية. كما أن القصف الوحشي للأطفال الفلسطينيين، وهم على شاطئ البحر أو بمدارس الأونروا، ألهب ثورة عالمية تمت بشكل عبقري ومنظم، تقودها عناية الله سبحانه على مواقع العالم الافتراضي من لدُن شباب وقيادات ومفكرين أنقياء من كل بقاع الأرض تكفلوا بإشعال غضب العالم ضد جرائم الحرب الصهيونية المخالفة لكل المواثيق الدولية، حيث وثقوا بالصور المروعة آثار الجاهلية الصهيونية الجديدة ووزعوها على كل المواقع وكل الشخصيات ذات النفوذ الدولي، وبدأت الحملة تؤتي أكلها بخروج أكبر المظاهرات المناهضة للغزو من عقر نيويورك ولندن وجُل دول الغرب في سابقة تاريخية بلا نظير، وكتب فنانون وسياسيون ورياضيون عالميون تغريدات قوية انتصارا للشعب الفلسطيني، واستفاق الضمير العالمي ليقاطع إسرائيل اقتصاديا وسياسيا، وحتى الحلفاء التقليديون بدوا في تصريحاتهم مع استشراء الجاهلية الصهيونية أكثر تحفظا ورفضا للتعامل الصهيوني مع سكان غزة، ونظمت معارض وملاحم وأغاني ومسرحيات وتجمهرات بالشموع، وانبرى اليهود المعارضون في كل بقاع العالم لإعلان رفضهم للعدوان الصهيوني، وإصدار بيانات الإدانة مع أصدقائهم من العرب والمسلمين، وبدت عزلة حكومة رئيس وزراء الكيان الغاصب واضحة للعيان، وخرس صوت القلائل من المحرضين العرب للصهيونية، في حين كان الغربيون أكثر صراحة في إعلان نفاد صبرهم وعدم قدرتهم على تغطية شمس الحق الفلسطيني. وبفضل الله ثم بالجهد العسكري للمقاومة وذكائها الاستراتيجي والتكتيكي كانت قوى المقاومة الفلسطينية تقود جهادا متحضرا، قوامه الهجوم الرصين الدقيق في وقته ومواقعه مقابل الاندفاع الصهيوني الذي فقد الزمام وغدا اندفاعيا مسعورا يدكّ البشر والحجر، وسجلت المقاومة ارتفاعا لأسهم المناصرين من كل شعوب العالم وبدا الفدائيون أكثر قوة وانسجاما وتوازنا وبدون يافطة الدموية التي وسمت الغزو الهمجي الصهيوني، واستفاق مَن تحكمهم القيادة الإسرائيلية الغاصبة على صوت ارتطام أسطورة التفوق الإسرائيلي، وطالب أذكياؤهم بإيقاف عجلة الانجراف إلى الهاوية اقتصاديا بعد الفضيحة السياسية والثقافية، وكانت الهزيمة المدوية، وإسرائيل عبر وساطاتها التقليدية تسأل توقيف الحرب ودون شروط عجرفتها التقليدية.. انتصرت المقاومة إذن لأن المعية الربانية ثم جهد المقاومة وجهد كل الشرفاء عبر العالم كان هو الأثقل في ميزان الله عز وجل الذي قضت سننه أن لا يطول زمن الباطل ..لكن هل تنعم غزة بانتصارها وذنب الحية ما زال حيا ؟؟ وما الدروس من هذا الحراك «البدري» للمقاومين الفلسطينيين؟ ذلك ما سنراه في حلقة قادمة بإذن الله، وقلبنا على المقاومة وعلى الشعب الفلسطيني بكل أطيافه وحتما وبلا شك على قوله تعالى إن ينصركم الله فلا غالب لكم.