عقدت أربع مؤسسات علمية هي: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، ومركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط، وجامعة سيدي محمد بن عبد الله – فاس، وماستر مقاصد الشريعة بكلية الآداب والعلوم انسانية – سايس فاس، عقدت هذه المؤسسات دورة في المقاصد بمدينة فاس، بعنوان: «إعمال المقاصد بين التهيب والتسيب» في الفترة :28 رجب إلى غرة شعبان 1435هـ الموافق لـ 28-30 مايو 2014م.
ومما لا ريب فيه أن عنوان الدورة جاء في وقته، وهو موضوع حساس وبالغ الدقة؛ إذ إننا نعاني اليوم – ولا أظن أن المعاناة ستنتهي! – من طرفين في الاشتغال بفكرة المقاصد: الأول: تيار الظاهرية والغلو أو «التهيب»، وهو الذي يخشى من المقاصد، ومن البحث فيها؛ حرصا على قدسية النص الشرعي، ومن ثم يقتصر على ما ورد في النص نفسه من تعليل دون تعديته إلى غيره، والثاني: هو تيار المؤولة الجدد أو «التسيب»، الذين يريد أهله الإطاحة بالنصوص الجزئية من أجل «إعمال» مقاصد كلية عامة، ربما لا يكون بينها وبين النصوص الجزئية أي تعارض، أو تكون مقاصد موهومة لدى هذا التيار.
وقد ألف شيخنا الإمام يوسف القرضاوي كتابه المعروف: «دراسة في مقاصد الشريعة» واستعرض فيه هذين التيارين ثم تحدث عن تيار الوسطية الذي يجمع بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية، وذكر خصائص كل مدرسة وما انتهى إليه كل تيار.
كان للتنسيق العلمي في هذه الدورة الذي قام به شيخ المقاصد في عصرنا العلامة أحمد الريسوني دور كبير في ترتيبها وأدائها ووقائعها من قبل البدء إلى ما بعد الختام، وهو يحتاج لكتابة مستقلة؛ حيث تم اختيار المشاركين بعناية، فضمت الدورة صفوة المختصين بالمقاصد في العالم أو جلهم، وخضعت الأبحاث لتحكيم علمي دقيق.
كما كان لمدير مؤسسة الفرقان التنفيذي أ. صالح شهسواري، وأ. محمد دريوش، مسؤول قسم المخطوطات ومسؤول التواصل في المؤسسة، ود. عمر جدية، منسق ماستر المقاصد بكلية الآداب سايس فاس … كان لهم دور كبير وجهد مشكور في مجريات الدورة وترتيبها وتنظيمها بالأخلاق العالية، والسلوك الراقي، والتقدير البالغ الذي يليق بمستوى هذه الدورة الرفيع، وضيوفها الكرام.
ثم كان الأداء، وما أدراكم ما الأداء! …
كانت الأوراق البحثية (15) ورقة، وكان صاحب الورقة يلقيها في نصف ساعة، على غير العادة في المؤتمرات، ثم يعقب عليه أستاذان، كل معقب في عشر دقائق، ثم يفتح الباب للنقاش الكامل والتدخلات العامة من الحضور المنتقى والخالص لعلم المقاصد، ثم يقوم صاحب البحث بالتعليق والرد على التعقيبات والأسئلة والتعليقات والانتقادات الموجهة لورقته.
تناولت الأبحاث موضوعات حساسة، منها ما تعلق بالظاهرية وموقفهم من المقاصد، ومنها ما تناول تيار المؤولة الجدد ومنهجهم في إعمال المقاصد، ومنها ما تناول التعليل بالحكمة.
وأود أن أشير إلى أن بحثا قيما بلغ قمة التفعيل المقاصدي في واقع الأمة ومعالجة قضاياها المعاصرة، هو بحث العالم الكبير ا.د. نور الدين الخادمي، وزير الأوقاف التونسية السابق، والأستاذ بجامعة الزيتونة، الذي جاء بعنوان: «المقاصد في المجال السياسي والدستوري: تونس نموذجا»؛ حيث بين فيه كيف تم إعمال الفكر المقاصدي في هذين المجالين بتونس.
تكونت الدورة من ست جلسات علمية احتوت كل جلسة على أكثر من ورقة علمية، ثم كانت الجلسة السادسة التي ألقى فيها العلامة الريسوني محاضرة جامعة بعنوان: علم المقاصد من الولادة الكامنة إلى الولادة الكاملة، فكانت استقراء لهذا العلم ورصد مسيرته حتى وقت جلسته التي يتحدث فيها .. ثم ألقى د. إبراهيم البيومي غانم كلمة في الجلسة الختامية باسم الضيوف.
كانت المشاركات عميقة، والتعقيبات نوعية، والمداخلات أصيلة، والتعليقات لها سخونتها العلمية وأهميتها الواقعية، وكان هناك تركيز على كيفية استلهام الفكر المقاصدي لقضايا الأمة المعاصرة؛ ليقوم العلم بأداء وظيفته التي كان مستلهَمًا لها ومنتدبًا إليها على مر العصور.
إنني أعتبر أن هذه الدورة: «إعمال المقاصد بين التهيب والتسيب» مثَّلتْ «عيدًا» للمقاصد و»محفلة» للمشتغلين بهذا العلم، فلم أحضر في حياتي عملا علميا كهذا العمل، ولا نشاطا مؤتمريا كهذه الدورة: ترتيبا، وتنظيما، وأداء، وختاما، ولا شك أنه سيكون عملا له تأثيره وقدره، وله ما بعده في الدرس المقاصدي، حاضرًا ومستقبلا.
د. وصفي عاشور أبو زيد