شهدت سنوات العقدين الماضيين انفجارا رهيبا لجملة من الصراعات السياسية والمذهبية أحالت الكون في الكثير من جغرافياته إلى محيطات من التصفيات والتصفيات المضادة. وقد جرت دماء كثيرة، لا تحت الجسر كما الماء فحسب، بل في المرتفع والمنحنى والسهل والممتنع من القلاع، وعلى رأسها قلعة المرأة التي امتهنت أيما امتهان، وشهدنا -عاجزين-نساء يطوح بهن في عراءات حدود بلاد العالم بلا رفيق حان ولا حيطان ساترة، وحركنا رؤوسنا حسرة فحسب لشرود أطفال ديست طفولتهم بالأحذية وأشياء أخرى مخزية، وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد وفضاءات علم وإبداع، وفضاءات ربيع واستجمام وألفة، وتعالت صرخات المُضَيَّعين، وضياع المسلمين أدهى وأحزن !! وتفاصيل صدماته بإفريقيا السمراء وآسيا وأوروبا تحيل الحروف والمداد إلى ماء، وتجعل ثلة من المسلمين المغمورين باليأس يتمنطقون بأبي تمام في بيته الشعري الشهير:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
وأكثر من أي وقت مضى يمثل في الذاكرة قوله تعالى أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ..
هو الإفساد الظاهر في البر والبحر وما يعفو عنه ربي كثير .. لكن لطف الله سبحانه الرحمن الرحيم لا حدود له فإزاء هذه الحروب الطاعنة في القسوة وعرابيها الأشرار في كل جزء من العالم ، تواصل المعية الربانية توجيه فرسان النور لرحلة الاستواء على الجودي ، ويكسر هذا الإيقاع الشيطاني المتمكن مظهرا إيقاع الحق وأصوات الحائرين المهتدين إلى صراطه، وفيهم العلماء لا العوام فحسب.
وقد حكى لنا أحد معارفنا أن طبيبا أمريكيا مختصا في جُزيء دقيق من جزيئات أمراض الكبد الكثيرة، شاء له الله تعالى أن تصاب ابنته الوحيدة بالداء الذي تخصص في الحرب عليه، وعجز أكبر الاختصاصيين من زملائه ـ كما هو ـ عن وقف زحف الورم الخبيث حتى أشرفت الفتاة على الهلاك، وكان هو ملحدا «خالصا»، إلا أن إدراكه لضياع ابنته الوشيك جعله ينهار تماما، وفي لحظة ضعف أخير ركع في خلوته سائلا القوة المبهمة كما يتصورها، إن كانت إلها حقا وموجودا أن تشفي ابنته، واستجاب الرحمن لتوسل الأب المكلوم، وسرت تباشير العافية أياما قليلة في ابنته، ولم يصدق الرجل العالم الصورة، فأجرى التحاليل وتبين له بالواضح ضمور الورم، فشهد أن الله حق، واعتنق اليهودية، فلم تقنع حمولته العلمية المنطقية، فاعتنق المسيحية بلا جدوى، فانقلب إلى البوذية فزادت نفسه نفورا وتيها. وأمام إصراره، يسَّر الله له لقاء رجل صالح أرشده إلى الدين الإسلامي، فندّت عنه صيحة استنكار: أيعتنق دين القتلة الإرهابيين؟! فصحح له الرجل بوصلة بحثه وأرشده إلى الإسلام في ينبوعه القرآني لا في تصرفات المسلمين الخطائين ككل البشر والتداعيات المضخمة لأخطائهم من طرف منابر إعلامية غربية غير بريئة، واستجاب الطبيب التائه لحكمة الرجل الصالح، فأصابته الصعقة الروحية مع القراءات الأولى لكتاب الله عز وجل، وزاد عطشه للنهل من المعين. فعرف فاستقام على الطريقة فسقاه الله جل وعلا ماء غدقا من أنوار اليقين جبر الله بها كسر روحه، وزاده إكراما بالشفاء التام لابنته..
هي مصابيح تضاء في سائر أقطار المعمور، ومع كل رقعة ظلام تتمدد تضيء شهب نور رقعة العتمة والله العلي القدير متم نوره بكل تأكيد ، بيد أن هذه القناديل المشرقة في شتى مجاهيل جغرافيات هذا العالم يجب أن تؤجج بداخلنا سؤال العمل للدين بجهد أكبر يعتمد النوعية أكثر من الكمية، إذ لا يعوز الكون قامات العلماء والوعاظ وهم أولو زاد علمي عملاق، لكن آلام العامة تزداد اتساعا وظواهر التنكب عن الصراط الأخلاقي السوي غدت نوعيا مقلقة جدا؛ قتل الأبناء للوالدين، اغتصاب الصغار جدا، اغتصاب العجائز، جرائم النساء ضد الأزواج في تجلياتها الأكثر قسوة في الإجرام، خيانة الزوجات العلنية للأزواج، انتهاك حرمة الجيران في أطفالهم وزوجاتهم، اغتصاب المسنات والفتيات المعتوهات …
هل طال الأمد فقست قلوب أهل التوجيه الديني كما أهل التوجيه الدنيوي من الفاعلين المدنيين؟ هل فسدت مضغة البنائين الأخيار ففسد الجسد كله؟.. ومع ذلك فإن بشرى التمكين للصلاح والخير تشد هامات الصادقين من المرابطين ـ وقليل ما هم ـ وتصلب قاماتهم للدق على جدار الإحياء ، نحتاج فقط إلى إخراج القلوب إلى الضوء ووهج الشمس لنتصالح مع أرواحنا المنغمسة في الرطوبة، ثم نتصالح مع بعضنا البعض لترميم البنيان المتداعي في أفق إحالته إلى بنيان مرصوص، إذ لا عبرة بالكم بل الكيف، قال تعالى: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (الصف : 4 ).
وحدها المصابيح الإسلامية المتجردة لخدمة الدين بإمكانها إعادة السعادة والفرح إلى القلب المظلم للبشرية، وقد فطن المنصفون من المثقفين الغربيين إلى هذه الحقيقة بكل تواضع . يقول الدكتور الألماني مراد هوفمان المعتنق الشهير للإسلام في كتابه الماتع «الإسلام في الألفية الثالثة « (ص 299) [ إن الإسلام ليس طالب إحسان ولكنه مانح رئيس لكثير من القيم وأساليب الحياة]…..
ذة. فوزية حجبـي