مما لا شك فيه أن الإسلام دين متكامل وشامل، يتجلى ذلك في تغطية أحكامه وتشريعاته لكل مناحي حياة الإنسان، فهو يخاطبه في نطاق تلبية حوائجه المختلفة، الروحية والمادية والنفسية والعاطفية وغيرها. وهي رؤية قل أن توجد في غيره من الفلسفات أو الأديان الأخرى، ومن أجل ذلك كان الإسلام دين الفطرة السوية، والرؤية الواضحة التي تمنح الإنسان فهما عميقا لمكونات هذا الوجود، وتحدد له نمط التحرك المنسجم مع دوره الاستخلافي في هذا الكون الفسيح.
والمتأمل في حال الأمة الإسلامية في وقتنا الراهن، وما تعانيه من آفات اقتصادية (الركود، والتضخم، والغلاء…) واجتماعية (الفقر، البطالة، الفوارق الطبقية…) يدرك بأن هذا الوضع هو حصيلة لانحرافات وقع فيها المسلمون، وبدل من أن تبادر الأمة إلى البحث عن علاج ناجع لهذه الآفات في ظل الرؤية الإسلامية، المتسمة بالتكامل والشمول، نجدها تمعن في تبعيتها للآخر من خلال استقدام الحلول من الشرق أحيانا، ومن الغرب أحايين أخرى.
لقد حدد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة سبل معالجة هذه الأزمات والحد من خطورتها، ومن هذه السبل: تفعيل مبدأ الإستخلاف في المال، الذي ينظم علاقة الإنسان بالثروة، ويهذب غريزة التملك لديه، ويجعل المال في يده وسيلة لقضاء المصالح والحاجات لا غاية في حد ذاته.
مفهوم الاستخلاف في المال :
يرتبط مفهوم الإستخلاف في المال بمعنى أعم وأشمل، وهو استخلاف الإنسان في الأرض، والاستخلاف في الأرض يعني أن الله تعالى مكن لعباده فيها، وأتاح لهم العيش فوقها، من أجل الاشتغال بإعمارها، وإصلاحها، والانتفاع بخيراتها، وذلك في إطار ما هو مأذون به شرعا، وضمن هذا المعنى ورد قوله تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة (البقرة 29)
أما الاستخلاف في المال، فهو أحد الأصول الكبرى التي تنبني عليها النظرية الاقتصادية الإسلامية، والمراد به: كون الإنسان نائبا ووكيلا عن الله في ما بين يديه من أموال وثروات، لذا يجب عليه تنفيذ مراده، وإجراء أحكامه فيها، وعليه فالمال في ظل هذا المبدإ مال الله، والإنسان مستخلف فيه. قال تعالى: وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه (الحديد:7) يقول الإمام الزمخشري:» يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما ولاكم إياها، وخولكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها؛ فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنـزلة الوكلاء والنواب»1
مفاهيم يصححها مبدأ الاستخلاف في المال :
أولا: مفهوم الملكية: إن هذا المبدأ يستند على حقيقة أن المال مال الله، فالله هو المالك الحقيقي والأصلي لما في أيدي الإنسان، وهذا الأخير لا يعدو أن يكون وكيلا ونائبا وخليفة عنه، يؤكد هذا نسبة الله تعالى المال إليه في مواطن عدة من كتابه، منها قوله تعالى: وآتوهم من مال الله الذي آتاكُم (النور 33)
ثانيا: مفهوم التصرف: ثم إن تصرف الإنسان في ظل هذا المَبدإ محكوم بتوجيهات رب المال،(الله) سواء في الكسب والتحصيل، أو الإنفاق والصرف، أو الاستثمار، وهو مسؤول عن ذلك بين يدي الله تعالى، قال رسول الله : « لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ: عَن عُمُرِه فيم أفناهُ، وعن علمه فيم فعل، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيم أنفقه. وعن جسمه فيما أبلاه.»2 فقوله : «وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه» دليل على أن الإنسان يُسأل عن ماله يوم القيامة، ويحاسب على تصرفه فيه، بالإحسان إن أحسن، وبالإساءة إن أساء.
ثالثا: الملكية الخاصة أو الملكية الفردية: ويقصد بها: حق الأفراد أو المؤسسات في تملك الأموال أو وسائل الإنتاج دون حجر أو تضييق، غير أن مبدأ الإستخلاف في المال في التصور الإسلامي، لا يقر هذا الحق بإطلاق، كما هو الحال في النظام الرأسمالي، بل إنه قيد ذلك بعدم الإضرار بمصالح الجماعة، وعليه فالملكية الفردية في ظل هذا التصور لها وظيفة اجتماعية.
رابعا: المال بين كونه «زينةُ الحياة وقوامها» وكونِه « فتنة وشهوة» :
قال تعالى: المال والبنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا (الكهف 46) وقوله أيضا ولا تُوتُوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قِيَما (النساء 5) وفي المقابل يقول جل وعلا إنما أموالكم وأولادكم فتنة (التغابن 15). ووجه التوفيق بينها، يمكن تلمسه في ظل هذا المبدإ، فالذي يُحصل المال ويستثمرُه وينفقه مستحضرا توجيهات مالكه الأصلي، ـ الله ـ يكون هذا المال زينةُ حياته وقوامُها، والذي يُهمِل ذلك ويقصر فيه، فهو فتنة لصاحبه في الدنيا، وسبب لشقائه في الآخرة.
بين الثروة ورأس المال :
إن مبدأ الاستخلاف في المال يُحتم علينا أن ندبر مقدراتنا المالية في إطار (رأس المال) المتحرك المنتِج، الذي يولد نشاطا اقتصاديا من خلال الاستثمار، وخلق المشاريع المنتجة التي تمتص العطالة، وتوفر فرص الشغل للشباب من خِلال اندماجهم في محيطهم الاقتصادي، المفعم بالانتاج والحركية، وفي ضوء هذا المعنى ينبغي فهم قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل فبشرهُم بعذاب أليم (التوبة 34) وإذا كان المفسرون القدامى قد فسروا الكنز بالمال الذي لم تؤد زكاته، فإننا نجد من المعاصرين من توسع في ذلك ليشمل المال الجامد الذي لم يدفع به أصحابه إلى سوق العمل من أجل تنميته واستثماره حتى يستفيد منه المجتمع كله، يقول مجدي عبد الفتاح سليمان: «والاكتناز في الفكر الإسلامي يشمل منع الزكاة، وحبس المال، فإذا خرج منه الواجب لم يبق كنزاً، والواجب من وجهة نظرنا يشمل الزكاة ـ الإنفاق ـ الاستثمار ـ فلا يخرج المال من دائرة الإكتناز إلا إذا تم إخراج الواجب أي الزكاة، العفو، النفقات، الصدقات، مداومة الاستثمار، والإسلام لم يقف في محاربة الكنز عند حد التحريم والوعيد الشديد، بل خطا خطوة عملية لها قيمتها وأثرها في تحريك النقود المكنوزة، وإخراجها من مكانها لتقوم بدورها في إنعاش الاقتصاد.»3
ولقد أثبت الواقع في الفترة الراهنة بأن مشكلة الأمة ليست متعلقة بالمال من حيث نقصه أو عدمه، ـ فالمال والحمد لله كثير ـ ولكن جوهر المشكلة هو عجزنا أو عدم رغبتنا في جعل ما نملك في خانة (رأس مال) والإكتفاء بجعل علاقتنا به منحصرة في خانة (الثروة) ومعنى هذا أن الاستفادة من أموال الأمة تبقى مقتصرة على أصحاب الثروات الجامدة، إن الحل كما يقول الأستاذ مالك بن نبي: « ليس في تكديس الثروة، ولكن في تحريك المال وتنشيطه، بتوجيه أموال الأمة «البسيطة»4، وذلك بتحويل معناها الإجتماعي من أموال كاسدة، إلى رأس مال متحرك، ينشط الفكر والعمل والحياة في البلاد.»5 والعمل بهذا المنهج سيجعلنا نحقق مراد الله في قوله تعالى: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (الحشر 7)
إن استثمار الأموال وفق هذا النهج، سيتيح لأفراد الأمة جميعا المشاركة في تحمل مسؤوليات البناء والتنمية، والابتعاد عن روح الخمول والكسل، ولعل هذا من أهم المقاصد التي يسعى مبدأ الاستخلاف في المال إلى تحقيقها.
مبدأ الاستخلاف في المال سبيل لتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة :
ثم إن تفعيل مبدأ الإستخلاف في المال بالمفهوم الذي ذكرنا سالفا، لا بد وأن يؤدي إلى تحقيق التكافل الإجتماعي بين أفراد الأمة، وذلك من خلال إشراك أفراد المجتمع في الانتفاع بالثروة بشكل عادل، حتى لا تتركز في يد فئة قليلة، ومن أجل ذلك رغب الإسلام في الصدقة التطوعية، وحث عليها، ووعد المتصدقين بالأجر العظيم قال تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم (البقرة 261)
والصدقة التطوعية تأتي من أجل سد الفراغ الذي قد تتركه الزكاة في حال عدم قيامها بحاجات المحتاجين، والزكاة هي الوسيلة الشرعية التي تضمن إشراك الفقراء والمساكين في أموال الأمة، بالإضافة إلى تلبية حاجيات أخرى، كتشغيل العاطلين، وقضاء الديون وإقامة المؤسسات والمشاريع المختلفة، ومحاربة اكتناز الثروة والتشجيع على استثمارها…
كما أن الدولة الإسلامية في نطاق قيامها بواجبها تجاه الرعية، مطالبة بمراعاة أحوالهم، والسهر عليها بما يضمن الكفاية للجميع، ولو أدى الأمر إلى أن يتساوى الجميع في حد الكفاف، وفي هذا المعنى قال الرسول : «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة، حملوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم»6
ويقول الخليفة عمر بن الخطاب : «إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا تأسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف.»7
إن التصور الإسلامي في مجال الأموال يسمو بالإنسان من الفردانية المقيتة القائمة على الاحتكار والاستغلال وتقديس الثروة، إلى المشاركة في سد ثغرات المجتمع من خلال إشاعة روح التعاون والتضامن المفضيين إلى تحقيق الكفاية والتوزيع العادل للثروات .
التاريخ يتحدث :
لقد مرت الأمة الإسلامية بمحطات مشرقة عكست مدى نجاعة الحل الإسلامي القائم على تطبيق مبدأ الاستخلاف في المال، ليس فقط على مستوى التوزيع العادل لمقدرات الأمة، بل على مستوى تنمية الإنتاج أصلا. فهذا عمر بن عبد العزيز يكتب إلى واليه عبـد الحميد ـ وهــو بالعـراق ـ «أن أخـرج للناس أعطياتهم، فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقى في بيت المال مال ! فكتب إليه : أن انظر كل من ادّان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه، فكتب إليه واليه: إني قد قضيت عنهم، وبقى في بيت مال المسلمين مال ! فكتب إليه: أن انظر كل بكر ليس له مال، فشاء أن تزو