- أولا: تمهيد في السياق التاريخي:
الحديث عن رشيد رضا رحمه يقتضي وضعه أولا في سياقه الزمني والفكري وحركة البعث الإسلامي المعاصر ، ذلك أن المناخ الذي يعيش فيه أي علم من الأعلام يكون له أثر ما في ذلك العلم كما أن العالم والمفكر لا يخرج من الدنيا إلى الآخرة إلا بعد أن يترك آثارا ما على مناخ عصره فكرا واجتماعا.
والمناخ الذي وجد فيد الشيخ رضا هو مناخ القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين/ التاسع عشر والعشرين الميلاديين وهما قرنان شهدت فيهما الأمة أحداث جساما، يمكن تلخيصها في ما يلي :
< الضعف العام الذي آلت إليه الأمة الإسلامية اجتماعيا وسياسيا وفكريا وعلميا واقتصاديا؛ فمن الناحية الاجتماعية عانت الأمة من هيمنة عادات وتقاليد تقوم على التواكل والكسل والسحر والشعوذة ، وفي مجال الفكر قل الإبداع وسادت نزعة التقليد وانتشر الفكر الصوفي في مظاهره السلبية والإرجاء، وفي المجال السياسي ضعف الدويلات الإسلامية والتفرقة والعصبية وضعف الاحتكام إلى الشرع ، وفي المجال العلمي الصرف خفت نجم العلوم الطبية والطبيعية والكيميائية وضعفت الصناعة وقل التطوير أو انعدم.
< الضعف العام للخلافة العثمانية الذي انتهى بإلغائها سنة 1924 على يد كمال أتاتورك المشبع بروح العلمانية الحديثة، تلك الخلافة أنهكتها الحروب مع روسيا واوروبا،كما انهكتها الحركات القومية في الشام ومصر وتركيا ، إلى جانب تغلغل النفوذ الفرنسي والإنجليزي في المنطقة الإسلامية وتأثيره مما أدى إلى سقوط العالم الإسلامي (سواء الذي هو تحت حكم العثمانيين أو المستقل عنه) في القبضة الاستعمارية الفرنسية والإنجليزية أساسا واستقلال كثير من المناطق واقتطاعها من الدولة العثمانية التي أطلق عليها اسم «الرجل المريض».
< ظهور حركات قومية للمطالبة بالاستقلال والانفصال عن الدولة العثمانية.
< ظهور حركة البعث والإحياء في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي داخل الخلافة العثمانية، وفي مصر والشام، والجزيرة العربية، والهند وإيران، وفي الغرب الإسلامي. وهي حركة تباينت منطقاتها وأهدافها منذ البداية بين قطبين متجاذبين؛ قطب علماني يرمي إلى تحقيق نهضة الأمة الإسلامية على غرار ما تم في أوروبا، وذلك بتحديث المجتمع ماديا أولا ثم ثقافيا وسياسيا بنقل التجربة الأوروبية في الإصلاح السياسي (الديمقراطية والعلمانية)، والإصلاح الفكري والتعليمي وما يتبعه من إصلاح اجتماعي وقضائي بتبني المذاهب الفكرية الغربية، وقطب إسلامي يرمي مشروعه إلى إحياء الأمة وفق أصولها الفكرية ومقوماتها الحضارية الإسلامية ، وانطلاقا من الوحي واستثمار الإبداعات المشرقة في التراث الإسلامي مع الانفتاح على الحضارة الأوروبية بما يخدم ولا يهدم.
في هذا المناخ المعقد والمترابط سياسيا وفكريا واجتماعيا ، محليا ودوليا، حاضرا وماضيا ومستقبلا ولد الشيخ محمد رشيد رضا، فمن هو هذا الرجل؟ وكيف تحول من رجل صنعه زمانُه إلى رجل صنع زمانَه؟ وكيف انخلع من سلطة واقعه ليكون هو نفسُه سلطةً على واقعه؟
- ثانيا : رشيد رضا من مولود بين الرجال إلى رجل معدود في الرجال ومُعِد للرجال:
ولد رشيد رضا رحمه الله تعالى (1282- 1354 هـ/ 1865 – 1935 م) في القلمون (من أعمال طرابلس الشام) وتعلم فيها وفي طرابلس. ونشأ نشأة صالحة وتلقى تربية صوفية في ابتداء حياته ساعدته أن يتعرف على هذا الوسط وينتقد أخطاءه ، وكان على قدر عال من الذكاء والفطنة والشجاعة وتمكن من علوم العربية وعلوم الشرع وعلوم العصر وعندما رحل إلى مصر سنة 1315هـ تعرف على الشيخ محمد عبده تلميذ الأفغاني وتتلمذ عليه ،كما تعرف على كثير من زعماء الإصلاح في مصر والشام وعاش مخاض حركة الإصلاح والإحياء الإسلامي في مصر والشام والدولة العثمانية وانخرط في مشروعها حتى صار من كبار أقطابها، وتفاعل مع أحداث الأمة في وقتها المحلية منها والدولية، فأسس مع أستاذه محمد عبده مجلة المنار التي كانت فعلا منارا، وجعلها قناة لنشر أفكار حركة الإصلاح والجهاد العلمي وقد أصدر منها 34 مجلدا، وقد قال عنها الدكتور محمد فتحي عثمان إنها «كانت منبراً للدعوة إلى تصحيح العقيدة والتزام تعاليم الشريعة الصحيحة، وشنت على البدع والخرافات والتقليد والتعصب للمذهب حرباً لا هوادة فيها ولا مداراة»(1) وسعيا للتعرف على حالة العالم الإسلامي وإصلاح أوضاعه زار كثيرا من المناطق الإسلامية كالهند والحجاز وأوربا والتقى بكثير من أعلام العصر. وكان رحمه الله تعالى ذا قلم أدبي وعلمي سيال، وذا روح إسلامية قوية غيرة وإيمانا وعملا.
كما أنشأ مدرسة الدعوة والإرشاد لتخريج العلماء والمفكرين والخطباء والدعاة المقتدرين على التفاعل مع قضايا الأمة تفاعلا إيجابيا، وقد كان لها أثر إيجابي في هذا المجال.
وانتهى به المطاف للاستقرار بمصر إلى أن توفي فجأة في (سيارة) كان راجعا بها من السويس إلى القاهرة، ودفن بها سنة 1354هـ.
وقد كانت حياته رحمه الله تعالى مليئة بالعمل والحركة تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا.
- ثالثا : معالم من فكره :
يعتبر رشيد رضا واحد من رجال الإصلاح الإسلامي وواحدا من رجال مدرسة المنار التي تكونت من الأستاذ جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ثم رشيد رضا، وقد قال محمد الغزالي رحمه الله تعالى عنهم: «إن الرجال الثلاثة : جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا هم قادة الفكر الواعي الذكي في القرن الأخير»(2).
وقد تأسس فكر مدرسة المنار عموما وفكر رشيد رضا خصوصا على مجموعة قواعد وأسس كانت في عمومها مبادئ حركة البعث والإحياء والإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي ومنها:
< تحليل واقع الأمة الإسلامية والكشف عن علله وأمراضه العقدية والسياسية والفكرية والاجتماعية واقتراح الحلول والأعمال المساعدة على تجاوز هذه المعضلات.
< الدعوة إلى عودة الأمة إلى العمل بالقرآن والسنة ، وتحكيمهما وجعلهما المصدر الأول للتلقي والاهتداء ، يقول الدكتور الشاهد البوشيخي عن أعلام المدرسة الثلاثة: «كلهم حصر الإشكال في ابتعاد الأمة عن القرآن الكريم فهما وعملا، وكلهم حصر الحل في فهم القرآن والعمل به على الوجه الصحيح كما كان الأمر أول مرة، لأن «المقصد الحقيقي… هو الاهتداء بالقرآن»»(3).
< مقاومة المشروع التغريبي الأوروبي الذي كان يعمل منذ البداية لعزل الشريعة عن الحياة وإبعاد الأمة عن قرآنها، وتغريب العقل المسلم وقد تضمنت مجلة المنار وتفسير المنار كثيرا من القضايا التي عالجت المذاهب الغربية ومفاهيمها وأهدافها والقائمين عليها في بلداننا.
< الدعوة إلى إحياء فقه السنن الإلهية الكونية والإنسانية لكونها الكفيلة بتحقيق نهضة الأمة وانبعاثها من وهدتها إلى الشهود على الناس وقد وقف الشيخ رشيد رضا وأستاذه محمد عبد كثيرا على الآيات القرآنية التي تنبه إلى سنن الله في الصالحين وفي الظالمين ومقارنة أحوال المسلمين اليوم بها، وقد جعل الشيخ رشيد رضا العلم بالسنن الإلهية معينا على فهم القرآن الكريم وتقويم حركة المسلمين.
- رابعا : آثاره في البعث الإسلامي المعاصر :
كان من آثار الشيخ رشيد رضا ومدرسة المنار خاصة غرس الوعي لدى أبناء الأمة الإسلامية بضرورة إحياء الذات وبناء المشروع الإسلامي المعاصر انطلاقا من القرآن الكريم والسنة النبوية وتجربة الأمة مع الاستفادة المضبوطة بضوابطها الشرعية من العلوم المعاصرة، وما عرفه العالم الإسلامي من صحوة يرجع في غالبه إلى جهود رشيد رضا وأضرابه ، ويمكن رصد هذه الآثار في ما يلي:
< تخريج جيل من المصلحين: أمثال الشيخ حسن البنا والشيخ محمد الإبراهيمي والشيخ عبد الحميد بن باديس، وغيرهم كثير مشرقا ومغربا. ويدل على ذلك التجاوب الكبير التي تلقته مجلة المنار ، والقبول والإقبال اللذان حظي بهما تفسير المنار.
< تجديد الفكر وتوسيع دائرة الإصلاحات: ذلك أن كل المصلحين الذين جاءوا بعد رشيد رضا تلقفوا دعوته للإصلاح وعملوا بها في مجالات التعليم والدعوة والفكر والمجتمع حيث اهتم الشيخ رشيد رضا برد الشبهات والرد على الفرق الضالة والمنحرفة وبيان الفكرة الإسلامية في بناء الإنسان والمجتمع وتناول قضايا اجتماعية وسياسية وفكرية واقتصادية وتعليمية وتربوية. وتعكس مجلة المنار في أبوابها وقضاياها وموضوعاتها هذا الأمر بوضوح.
< تجديد المنهج في فهم كتاب الله جل وعلا وتجديد التدين في الأمة وتجديد منهج بعثتها والتركيز على قضايا من شأنها إصلاح المجتمع من قبيل مقاصد القرآن الكريم وإعجازه والسنن الإلهية والتفسير الموضوعي ومنهج الدعوة.
ويلخص الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي نتائج مدرسة المنار في الأمة في جوانب ثلاثة:
1- تخليص المصطلح القرآني من كثير من الشوائب التي علقت به عبر القرون…
2- تعبيد الطريق إلى إصلاح واقع الأمة بالقرآن …
3- إعادة القرآن الكريم إلى مركزيته في الإصلاح، هذه أمّ النتائج وأفضل الفضائل؛ نحن أمة أخرجت من كتاب، وصنعت بكتاب، وقبل الكتاب لم يكن يحسب لها أي حساب،..إننا ما دخلنا التاريخ بمنهج فلان أو فلان، ولكننا دخلنا التاريخ بهداية القرآن»(4)
ـ خامسا : مؤلفاته وآثاره :
ترك الشيخ رشيد رضا ثروة علمية زاخرة منها :
- مجلة «المنار» وقد أصدر منها 34 مجلدا.
- تفسير القرآن ـ في 12 مجلدا.
- تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ عبده في ثلاثة أجزاء.
- نداء للجنس اللطيف.
- الوحي المحمدي.
- يسر الإسلام وأصول التشريع العام.
- الخلافة.
- الوهابيون والحجاز.
- محاورات المصلح والمقلد.
- شبهات النصارى وحجج الإسلام.
هذا وقد ألف الأمير شكيب أرسلان كتابا في سيرة الشيخ محمد رشيد رضا سماه « السيد رشيد رضا ، أو إخاء أربعين سنة» ذكر فيه مناقب هذا الرجل وأعماله وجهاده العلمي والتعليمي والتربوي.
وختاما يمكن القول : إن رشيد رضا وإن كان تلميذا لمدرسة المنار فإن هذه المدرسة لا تذكر إلا ويذكر معها هذا العالم الذي أضفى على المدرسة مسحة خاصة ونفسا جديدا ولقد أحيا الأمة ببث الوعي وتجديد تدينها عبر مجلة المنار والعمل الصحفي، وعبر العمل الجمعوي والتعليم «جمعية الدعوة والإرشاد»، فرحم الله هذا الرجل الذي كان حقا هو وأقرانه رواحل حقيقية في القرن الرابع عشر الهجري ولم يرحلوا حتى خلفوا من بعدهم الرواحل أيضا.
د. الطيب الوزاني
——————-
1 – السلفية في المجتمعات المعاصرة. د. محمد فتحي عثمان, الكويت: دار القلم, 1993م, ص81ـ86.
2 – علل وأدوية : محمد الغزالي ، 1/122 ، ط/أخبار اليوم
3 – دراسات مصطلحية : أ.د. الشاهد البوشيخي، ط. 1. 1433هـ / 2012، دار السلام ، مصر، ص.111
4 – نفسه