خطبة منبرية – حقيقةُ الغفلة وأسبابُها وعواقبُها


الخطبة الأولى :
عباد الله: يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:{وَإِذَ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّياتِهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمُ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الاعراف: 172)، ويقول جل وعلا: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ () أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (يونس:8) .
ويقول عز من قائل:{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} (الكهف)
إن الله عز وجل قد أوجب علينا ذكره، وأثنى على الذاكرين، وبين لنا محاسن الذكر وفوائده وثمراته، وما دام الإنسان ذاكرا لله فهو في حفظه ورعايته وتحت عنايته.
وإذا لم يكن هذا الإنسان ذاكرا لله مشتغلا به، فهو غافل عن الله منشغل بغيره، فما هي حقيقة الغفلة؟ وما هي عواقبها؟ وكيف يمكننا أن نعالج أنفسنا منها؟.
إن الغفلة داء ووباء أصاب الأمة وأضعفها وقضى عليها، والغفلة في اللغة هي السهو عن الشيء، وقد عرفها أحد العلماء بقوله: الغفلة فَقْدُ الشُّعورِ فيما حَقُّه أن يُشْعَر به، ومعناه: أن ينعدم الإحساس بشيء له وجود في الواقع، فيُغَيَّب ما ينبغي استحضارُه، ويُهْمَل ما يلزم الاعتناء به، ويُبعَد ما ينبغي تقريبه، ولذلك يمكن أن نقول: إن الغفلة لهوٌ وسهوٌ وبعدٌ وشرودٌ، وهكذا فقد يغفُل الإنسان عن نفسه أو أهله أو أي شيء محيط به، فلا يرعى لذلك اهتماما حتى يكثر حوله المعاتبون ويبرز أمامه الناصحون فيستفيق من غفلته ويستيقظ من غفوته ويتدارك الأمر قدر استطاعته، فيعوض ما ضاع، ويتدارك ما فات، ولكن المصيبة العظمى والطامة الكبرى، والخسارة التي لا تُعوَّض هي الغفلة عن الله عموما وما يتفرع عنها من غفلة عن الدين وغفلة عن الموت وغفلة عن اليوم الآخر والبعث، وغفلة عن الوقوف بين يدي الله، وغفلة عن الحساب والعقاب، قال تعالى في شأن قوم فرعون وبيان سبب هلاكهم:{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}، وقال جل وعلا:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ()أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، وقال سبحانه وتعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ()أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ()لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ}.
فمن مظاهر الغفلة اتباع الهوى:{ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه}، ومن مظاهر الغفلة إيثار الحياة الدنيا على الآخرة:{ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة}
ومن صفات أولئك الغافلين كما نصت عليها الآية أنه قد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْاِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمُ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمُ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْاَنْعَامِ بَلْ هُمُ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ}
فتجد أحدهم لا يعقل الهدى ولا يسمعه ولا يحب سماعه ولا يراه ولو كان أمامه، لا يستحب مجالس الخير وصحبة الصالحين وإن حضر هذه المجالس خرج منها كما دخل، لا يستجيب لنصيحة ولا يتأثر بموعظة، لأن الطرق التي تدخل منها الموعظة إلى القلب معطلة والقلب غارق في غفلته وسهوه ولهوه، ومن صفات الغافلين أنهم قليلو الذكر لله، جاء في سنن الترمذي عَنْ يُسَيْرَةَ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ قَالَتْ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ [ : «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ»(7)، وليست الغفلة قصراً على الجاهل وغير المتعلم، بل هناك ممن يحملون أكبر الشهادات في علوم الدنيا وهم من الغافلين. أخبر عن ذلك الله تعالى بقوله:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}(8).
عباد الله: إن الغافل عن الله يستهين بمحارم الله ، لأن حاله كما يصفه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: (إن حجاب الهَيْبَةِ – لله عز وجل- رقيقٌ في قلبِ الغافلِ)، وقال أيضا:(على قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله)، فالغافل تُقْعِدُه غفلته عن الترقي في مراتب الكمال، يقول ابن القيم في ذلك: (لا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت)، وقال أيضاً: (إن مجالسَ الذكرِ مجالسُ الملائكةِ ومجالسَ اللغوِ والغفلةِ مجالسُ الشياطينِ، فليتخيرِ العبدُ أعجبهما إليه وأولاهما به فهو مع أهله في الدنيا والآخرة)، فتصوروا- رحمكم الله- كم من مجالسنا واجتماعاتنا مفعمة بالغفلة، وكم من أعمالنا ومواقفنا وسلوكنا ومعاملاتنا تطبعها الغفلة، في أفراحنا ومسراتنا غافلون، وفي أقراحنا وأحزاننا غافلون، في الضيق والشدة غافلون، وفي المرح والرخاء غافلون، نتمتع بالنعم والمنح ونحن في غفلة، ونجتاز المحن والأزمات ونحن في غفلة، وهكذا نعيش أوقاتنا ونقضي أعمارنا ونحن في غفلة، حتى أصبحت هذه الغفلة تتعدى حدود الأفراد إلى دوائر المؤسسات الإدارية والاقتصادية والإعلامية والتعليمية والثقافية والفنية والسياسية، حيث يكثر الهرج والمرج، واللهو واللغو واللغط، دون استراتيجية في التخطيط ولا تبصر في التنفيذ، ولقد لخص بعض أهل العلم مضار الغفلة في ست نقاط: فهي تجلبُ الشيطانَ وتُسخِط الرحمنَ، وهي تُنزل الهم والغم في القلب وتبعد عنه الفرح وتميت السرور، وهي مدعاة للوسوسة والشكوك، وهي تورث العداوة والبغضاء وتذهب الحياء والوقار بين الناس، وهي تبلد الذهن وتسد أبواب المعرفة، ثم هي تُبعد العبد عن الله وتجره إلى المعاصي.
فاللهم إنا نعوذ بك أن نَضِل أو نُضَل، أو نَزِل أو نُزَل، أو نَظلم أو نُظلم، أو نَجهل أو يُجهل علينا، واكتبنا اللهم من الذاكرين ولا تجعلنا من الغافلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية :
أخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً وَمَا مِنْ رَجُلٍ مَشَى طَرِيقا فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً وَمَا مِنْ رَجُلٍ آوَى إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً»، وفي رواية أخرى: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضاً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي مَجْلِسٍ فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ [ إِلَّا كَانَ مَجْلِسُهُمْ تِرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، والتِّرة هي الحسرة والندامة.
وقال رسول الله [: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» أخرجه البخاري
فعالجوا غفلتكم وأحيوا قلوبكم بذكر الله، وتحينوا الفرص التي قد لا تتطلب منكم تعبا ولا مشقة.
وإليكم بعض التجارب والنماذج التي يمكننا أن نستفيد منها جميعا%