- تمهيد :
جاءت الشريعة الإسلامية لحفظ مصالح الناس ودرء مفاسدهم على نطاق واسع يشمل حياتهم الشخصية والاجتماعية، الزمانية والمكانية، ومما أولته الشريعة الإسلامية بالعناية موضوع الوسط البيئي الذي يعمره الإنسان، ولما كان قوام الذات الإنسانية متوقف على استقامة المحيط الذي تعيش فيه، فقد أحاط الشرع الحنيف هذا المحيط بمجموعة من التدابير الكفيلة بتأمين إقامة سليمة تهيئ للإنسان الجو الملائم للاستخلاف.
وإن مما تداولته ألسنة أهل الأصول والفروع، عبارة الإمام أبي حامد الغزالى505هـ في المستصفى: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة» (1).
هذه هي الثوابت الإسلامية التي ينبغي على المسلم أن يراعيها في نفسه وأن يتعهدها في حياته العامة والخاصة، فهي المقاصد الكلية التي اتفقت عليها الشرائع السماوية، وأكدت عليها الشريعة الإسلامية، إنها مقاصد تمتاز بربانية المصدر، وعمومية الموضوع، وتتصف بالإتقان والإحكام والكمال، وتراعي حاجات الإنسان المادية والمعنوية التي جبل عليها:﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (2). ولذلك وصفها الإمام أبو اسحاق الشاطبي790هـ بقوله: «لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين» (3).
- البيئة وحفظ الدين :
يتصدر المقاصد الخمسة حفظ الدين، ويعنون بذلك حفظه بإقامة أركانه المجمع عليها، وترك المحرمات المتفق على حرمتها، وحفظ الدين على هذا الوجه يرتبط ارتباطاً وثيقاً برعاية عناصر البيئة التي خلقها الله وسخرها لنفع عباده وأراد لها الاستمرار، وحذر من الاعتداء عليها أو محاولة إفنائها، فقال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ (4). فإذا قام الإنسان بشكر الله على ما أنعم زاده الله من الخير في الدنيا والآخرة، وإذا طغى وبغى وأفسد محق الله بركات عمله : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (5) وشكر النعمة هو استخدامها فيما خلقت له، والحفاظ على توازنها، والحذر من إفسادها أو تغيير طبيعتها، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (6).
وعلى هذا يكون حفظ البيئة من حفظ الدين، لأنها مما أمر به الشرع الحكيم بالحفظ والرعاية والصيانة، ومن جهة أخرى فإن حفظ الوسَط البيئي أساسي لضمان تدين سليم للإنسان، لأن العبد لا يقوى على تفعيل مبادئ الدين أمرا ونهيا، إذا انخرم نظام الحياة على البسيطة، وتعرضت الإنسانية للهلاك، بسبب فقد الاعتدال البيئي الذي يضمن للحياة قوامها.
- البيئة وحفظ النفس :
عنيت الشريعة بحفظ الأنفس، وذلك بتحريم الاعتداء عليها مباشرة أو تسبباً، وتجنب كل ما من شأنه إيقاع الضرر بها، ذلك أن حق الحياة في الإسلام هبة من الله تعالى، ولا يجوز المساس به، ويجب على الأمة ككل، وعلى كل فرد، رعاية الأنفس وصيانتها وتوفير البيئة الصحية الملائمة لها، قال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (7).
وقد كثرت في عصرنا الراهن الكوارث البيئية التي تؤدي إلى هلاك الأنفس، على اختلاف أنواعها وتباين مصادرها، وهو ما يتحدث عنه القرآن الكريم في قوله تعالى:﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾(8).
- البيئة وحفظ العقل :
أما حفظ العقل، فلأنه مناط التكليف، ويَحرُم كل ما من شأنه إدخال الخلل عليه، وهذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً برعاية البيئة والحفاظ على نقائها؛ فقد ثبت علمياً، أن التلوث الإشعاعي والتلوث الصوتي لهما أثر خطير ومباشر على خلايا المخ، وقد يبكر في الإصابة ببعض الأمراض الذهنية مثل الزهايمر. «فمن حفظ البيئة أن نحافظ على التفكير السوي في الإنسان الذي يوازن بين اليوم والغد، وبين المصالح والمفاسد، وبين المتعة والواجب، وبين القوة والحق، ولا يتعامل مع البيئة تعامل المخمور السكران، أو المخدر التائه، الذي ألغى عقله باختياره، فلم يعد يعرف ما ينفعه مما يضره » (9).
فمراعاة ضرورة الحفاظ على العقل تقتضي العناية بما يحيط به معنى وحسا، ولما كان التلوث البيئي مما يؤدي إلى الإخلال بنظام التعقل عند الإنسان، كان من الضروري الحفاظ على البيئة من عوامل التلوث، ذلك لأن الوسائل تعطى حكم المقاصد، فكل ما يساهم في الحفاظ على ضرورة العقل يجب الأخذ به.
- البيئة وحفظ النسل :
وحفظ النسل يتضمن المحافظة على الفروج والأعراض وصحة الأنساب، ويواجه هذا المقصد الضروري تحدياً سافراً من المفسدين في الأرض وملوثي البيئة التي فطر الله الناس عليها؛ فالعبث بالجينات الوراثية، وتجارب الاستنساخ البشري، وإباحة الزواج المثلي ونحو ذلك يعد تحدياً خطيراً للتوازن البيئي، وقد اعتبر القرآن الكريم قوم لوط من المفسدين في الأرض لتغييرهم فطرة الله في الخلق، فقال تعالى: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِين ﴾(10).
ومن هنا يظهر أن البيئة في المنظور الإسلامي تحمل مدلولا واسعا، يشمل الإنسان بمختلف أجناسه والمكان بمختلف مكوناته الحية والجامدة، المحسوسة وغيرها، فالمحافظة على البيئة محافظة على قوانين الطبيعة التي تضمن توازنها، ومحافظة على نظام العلاقات الإنسانية الذي يضمن للإنسان إنسانيته.
- البيئة وحفظ المال :
وحفظ المال مقصد يحتاج إلى وقفة متأنية لعلاقته الوطيدة برعاية البيئة والحفاظ على مقدراتها؛ فالمسلم مكلف شرعاً بالسعي لكسب المال الحلال من طرقه المشروعة، وإنفاقه على نفسه وأهله دون سرف أو إقتار، وأداء حقه الشرعي في مصارفه المقررة، ولا يجوز له أن يأكل مال غيره إلا بوجه مشروع ورضى من صاحبه.
ولفظ المال يطلق على كل ما له قيمة: كالأرض والمتاع والحيوان والشجر والنقد ونحو ذلك، كما يطلق على ما يمكن أن يصير منتفعاً به، كالسمك في الماء، والطير في الهواء، والحيوان غير المستأنس، وما يمكن حيازته وتعبئته وضغطه من الماء والهواء والضوء وغير ذلك.
وقد وجه الإسلام إلى استعمال ما خلقه الله في الكون استعمالاً متوازناً بدون تقتير ولا إسراف؛ حتى لا يكون هناك اعتداء على حقوق أجيال المستقبل، واستنزاف لبعض الموارد الطبيعية المكونة للبيئة، فقال تعالى:﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين ﴾(11)، وقال أيضا: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾(12). وحفظ البيئة يوجب علينا أن نحافظ على المال بكل أجناسه وأنواعه،فنحافظ على موارده فلا نتلفها بالسفه، ونستنزفها بلا ضرورة ولا حاجة معتبرة، ولا نحسن تنميتها ولا صيانتها، فنتعرض للهلاك والضياع، ولا نسرف في استخدامها، فنضيعها قبل الأوان(13).
وعليه فإن ضرورة حفظ المال تستدعي ضرورة الحفاظ على البيئة ومكوناتها، ذلك لأن %