«الأصل في معنى (سلم) في القرآن الكريم يفيد ما يُقابِل الخصومة، أي الموافقة الشديدة ورفع أي خلاف ظاهراً كان أو باطناً، خاصا أو غيريا، ومن لوازم هذا المعنى مفاهيم الانقياد والصلح والرضا، وبذلك فإن الدخول في الإسلام هو دخول في نطاق لا يمكن أن ينال فيه أحداً ألمٌ من صاحبه».
هذا مضمون قول أحد الدارسين وهو يتحدث عن السلام في القرآن الكريم، ذلك السلام الذي يُعَدُّ صفة يكون عليها الفرد أو المجتمع نتيجة علاقات يسودها «الاعتدال» و»الاتزان»؛ مما يحقق «السَّلام النَّفسي» أولاً، ثم «السلام الاجتماعي» ثانيا.
إن السلام النفسي يبدأ بالإسلام لله تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِين (غافر: 66)، أي أن أجعل نفسي وذاتي وقلبي وجوارحي سِلْماً تجاه رب العالمين، منقادة إليه كل الانقياد، وبذلك تحصل الطمأنينة في القلب لأن اللهَ ربَّ العالمين يكفي من أسلم إليه كل أموره.
وبِتأسيسِ السلام النفسي يَتَأسَّس السلام الاجتماعي بشكل تلقائي، فالمسلم الذي أسلم نفسه لله جل وعلا، لا يحقد على أحد ولا يظلم أحدا، ومن هنا تبرز أهمية تحية الإسلام: «السلام»، التي أُمر المسلمون بإفشائها؛ عند دخول البيوت، فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً (النور: 59) وعند لقاء بعضهم ببعض ومحاولة السبق في ذلك، «إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام» (رواه أبو داود والترمذي)، بل وحتى عند الخصام: «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (رواه البخاري ومسلم) ثم إنها التحية التي تكون يوم القيامة، عند لقاء الله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ (الأحزاب 44)، وفي الجنة أيضا: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (يونس:10).
وبناءً على تحية «السلام» وما تحمله من مضمون سام، فإنه لا يجوز أن يروع مسلمٌ مسلما، فضلا عن أن يعنفه أو يعتدي عليه: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ» (أخرجه الإمام مسلم)، «لا يحل لمسلم أن يروع مسلما» (رواه أبو داود)، أما الإجرام والإفساد في الأرض وقتل النفس فأمور حرمها الشرع بالإطلاق: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (المائدة 34) وأمر الله تعالى بأن يعاقب أصحابها أشد العقاب إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم (المائدة: 35)، «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق» (رواه ابن ماجة).
وبذلك تتآلف عناصر السلام بكل أبعادها لتكوِّن بنيات المجتمع المسلم بكل جزئياته ومكوناته، بدءاً بالذات والأسرة، ثم الجيران وما لهم من حقوق،» مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» (متفق عليه)، ثم أبناء المجتمع والوطن، فأبناء الأمة كلها «من لم يهتم للمسلمين فليس منهم» (أخرجه الحاكم في المستدرك)، ليصل الأمر إلى أبناء الإنسانية جمعاء يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰوَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم (الحجرات: 13).
وبتكامل عناصر السلام في بني آدم ينتقل السلام إلى البيئة ويتجلى فيها، وذلك بالمحافظة عليها من الفساد والدمار، سواء أكانت هذه البيئة في صورة حيوان يسعى، «عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» (صحيح مسلم)،أم في نبات ينبت: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها» (الجامع الصغير، حديث رقم: 2668)، وهو خُلُقٌ شُرع حتى في حالة الحرب، كما في وصية أبي بكر رضي الله عنه للجيش: « وَلا تُعقروا نَخْلا, وَلا تَحْرِقُوا زَرْعًا, وَلا تَحْبِسُوا بَهِيمَةً, وَلا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً..» (مسند أبي بكر الصديق للمروزي).
إن السلام في الإسلام يترفع عن السلام الشكلي الظاهري الذي لا يلتفت فيه الإنسان إلا إلى نفسه، ويحتقر ما عداه، بل وقد يلجأ إلى الفتك به وتدميره. إن سلام الإسلام لا يمكن أن ينال فيه أحداً من بني البشر ألمٌ من صاحبه، ولا يصيب شيئا في البيئة تدميرٌ أو خراب من بني البشر، إنه سلام الإسلام، الذي هو دين السلام: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (النساء:124).