لعلّه قد بدا من خلال ما سبق من مقالات في هذا العمود، ثم من خلال ما هو مقروء ومسموع مما يتعلق بالتعليم في السنوات الأخيرة، أن التعليم يمر فعلا بأزمة كبرى، يتقهقر مستواه وتتراجع مردوديته بشكل كبير، مما يتطلب تدخلا فعليا وحاسما من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. ولِمَ لا! ربما حتى ولو تطلب الأمر إعادة النظر فيه جملة وتفصيلا، فخطوات الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، أو كما قال أحد الزعماء السوفييت : «من أجل تحقيق خطوة واحدة إلى الأمام، لا بأس من فعل خطوتين إلى الوراء، إن اقتضى الأمر ذلك».
ولعل أول خطوة في هذا الباب ينبغي أن تتجلى في تجنيد وسائل الإعلام كيفما كانت مقروءةً أو مسموعة أو مشاهَدةً لخدمة هذا الهدف بشكل إيجابي لا بشكل سلبي، أي لا ينبغي لوسائل الإعلام أن تنشر الغسيل بكيفية تفقد الأمل في كل ما تبقى من إيجابيات التعليم، ولكن لتحسيس المواطن بأهمية التعليم ودوره في التقدم وبناء الوطن والأمة.
ولعل أول نقطة في هذه الخطوة التي ينبغي أن يدركها كل واحد، ويقتنع بها اقتناعاً راسخاً، هو أن الهدف من التعليم ليس من أجل التوظيف، ولكن من أجل التكوين، والتكوين الجيد. أما التوظيف فهو تَبَعٌ لجودة التكوين ولا عكس.
قد يؤاخذني العديد من الشباب العاطلين على هذا القول، وقد يتهمونني بأني أخْدُم «أَجْنِدَة» معينة كما يقال، ولكن ليس الأمر كذلك، فالتعليم إذا رُبط هدفه بالتكوين الجيد خُطةً وتأطيراً واستفادةً، لا بد أن ينتج خريجا كفؤاً، يستطيع أن يجد العمل في كل مكان، بل سيكون مطلوبا من أكثر من جهة. أما إذا ربطنا التعليم دائما بالتوظيف، وفي القطاع العام بالذات، فإن هذا يرسخ فكرةً ترتبط بالمصلحة الفردية وليس بالمصلحة الجماعية، لأن السائد الآن ـ وكذلك هو الأمر ـ أن التوظيف في القطاع العام يعني ضمان العديد من المكتسبات، وخاصة «مكتسبات» الغش والرشوة والمحسوبية والنوم،، وما إلى ذلك من الأمراض التي تنخر العديد من القطاعات العمومية. أما المكتسبات الأخرى التي هي بحقٍّ مكتسبات، كاستقرار العمل، والأجرة الراتبة المستقرة المشرِّفة، والضمان الصحي والاجتماعي وما إلى ذلك، فأَمْرٌ لا يختلف فيه عاقلان، وينبغي أن يكون في كل قطاع، بل هو موجود أصلا على الأقل من الناحية النظرية، وإن كان تطبيقه بشكل عملي يحتاج إلى إرادة حسنة وعزيمة صلبة وإصلاح شامل، مما يمكن أن نتناوله في كتابات لاحقة إن شاء الله.
إن الخريج الجيد، حتى في واقع تعليمنا الحالي على عِلَّاتِة، ورغم ما يمر به من مشاكل، نجده مطلوبا في كل الأحوال وفي كل التخصصات، ولقد تابعت بأم عيني أجيالا من الشباب تخرجوا في مختلف المستويات الجامعية (إجازة ـ ماسترـ دكتوراه) وكانوا متميزين، حيث لاحظت أنهم لم يمروا بحالة ما اصطلح عليه الآن ب «المعطلين» أو «العاطلين»، وكان توظيفهم باستحقاق وجدارة، وليس عن طريق التوظيف المباشر. مع العلم أن كل الحالات التي تابعتها هي في التخصص الذي ينفر منه في العادة جل التلاميذ والطلبة الآن، إنه تخصص الآداب، ثم تخصص اللغة العربية وآدابها بالذات.
إذن فالتكوين الجيد ذو المستوى العالي والرفيع هو الذي ينبغي أن يرفع شعارَه التعليمُ، وهو الهدف الذي ينبغي الحلم بالوصول إليه، وهو الذي ينبغي أن يكون أحد مرتكزات الإصلاح الأساسية، وهو الذي ينبغي أن يكون مادةً إعلاميةً في كل المنابر الإعلامية، بإبراز حقيقة الهدف من التعليم: وهو التكوين الجيد في كل التخصصات، من أجل ضمان الشغل المناسب المُنتِج، وليس التعليم من أجل شغلٍ غير مناسب، أو من أجل إنتاج عطالة صريحة كانت أو مقنعة.
د. عبد الرحيم الرحموني