أولا : مقتضيات التأسي:
إن من مقتضيات التأسي برسول الله [ أن تتحقق في المتأسين به صفتا الرجاء في الله واليوم الآخر، والذكر الكثير، قال تعالى: ﴿{لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا}﴾.
فالرجاء من أجل المقامات وأشرفها، ولا يكون إلا مع بذل الجهد وحسن التوكل، وقد مدح الله عز وجل أهله وأثنى عليهم في كثير من الآيات، منها قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} (البقرة 216).
كما ورد الثناء عليهم أيضا في أحاديث كثيرة، منها الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله [ عن ربه: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي» الحديث.
فالرجاء كما قال ابن القيم –رحمه الله- «دائر بين ذنب يرجو المسلم غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها ودوامها، وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها، ولا ينفك مسلم عن هذه الأمور أو بعضها» (مدارج السالكين 2/42-43).
إن الرجاء في الله عز وجل يجعل القلب متعلقا به عز وجل، وإن الذي يرجو الله عز وجل حق الرجاء هو الذي يعرفه حق المعرفة فيوحده في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وأفعاله، ويعبده، ويحمده، ويستعينه، ويستغفره، ويومن به، ويتوكل عليه، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، ويفر إليه…
وإن الذي يرجو اليوم الآخر {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} (الحج 2) و {يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وابيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} (عبس 34-37) كفيل بأن يتحول من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، من حال ومقام الحرص على الدنيا وملذاتها الزائلة إلى حال ومقام الحرص على الآخرة ونعيمها الذي لا ينفد.
وأن يجعل دنياه ممرا إلى آخرته:
ما أنت إلا كزرع عند خضرته
بكل شيء من الآفات مقصود
فإن سلمت من الآفات أجمعها
فأنت عند كمال الأمر محصود
وأما الذكر فبه تعمر القلوب، ويحدث فيها ما يحدث من خير، فهو طارد للغفلة التي هي من لوازم بشريتنا (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) ولذلك جاء التعبير في الآية {وذكر الله كثيرا}.
وقد كان رسول الله [ -كما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله- أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله، ووعده ووعيده ذكرا منه له، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وحمده وتسبيحه ذكرا منه له… فكان ذاكرا لله في كل أحيانه، وعلى جميع أحواله، وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه ومسيره ونزوله وظعنه وإقامته (زاد المعاد 2/15-16).
فليجتهد المسلم أن تكون حياته كلها ذكرا لله عز وجل كما شرع الله عز وجل، وكما بين رسول الله [﴿{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم}﴾ (آل عمران 190-191).
ثانيا : مجال التأسي :
أما مجال التأسي برسول الله [، ففي دعوته [ ﴿{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف 108).
قال ابن القيم –رحمه الله- في تفسير الآية «أمره سبحانه أن يخبر أن سبيله الدعوة إلى الله، فمن دعا إلى الله تعالى فهو على سبيل رسوله [، وعلى بصيرة، وهو من أتباعه، ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله، ولا هو على بصيرة، ولا هو من أتباعه: (تفسير ابن القيم، ينظر الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم).
فالدعوة إلى الله عز وجل وظيفة المرسلين وأتباعهم (وهم خلفاء الرسل في أممهم والناس تبع لهم) (تفسير ابن القيم).
فنوح دعا قومه ليلا ونهارا، ويوسف لم يمنعه كونه سجينا أن يبلغ رسالة الله عز وجل، والرجل الصالح جاء من أقصى المدينة يسعى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… والنبي [ وهو في أحلك اللحظات وأدقها عندما هاجر إلى المدينة رفقة صاحبه أبي بكر الصديق ] لقي في طريقه بريدة الأسلمي في ركب من قومه، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا…(الإصابة 1/146).
وقد أكرم الله تعالى هذه الأمة وشرفها بأن أشركها مع رسوله [ في وظيفة تبليغ هدى الله عز وجل.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿{والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}﴾(التوبة 71)
«جعل (الله) تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المومنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المومنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه (عند تفسير آية 21 من سورة آل عمران، ينظر الجامع التاريخي).
إن مقام الدعوة إلى الله عز وجل هو من أجل المقامات، وأشرفها وأفضلها ﴿{ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}﴾ (فصلت 32).
وإن حديث السفينة المروي في صحيح البخاري دال على وجوب الأخذ بيد العصاة وبيد الناس حتى ينجو الجميع بإذن الله عز وجل، وإن الصلحاء إذا تركوهم هلكوا وهلكوا جميعا.
إن المسلم المتأسي برسول الله [ يجب أن يكون حديثه في كل المجالس عن الدعوة إلى الله عز وجل، كيف تنتشر؟ وكيف يعيش الناس لها؟ وكيف يجب أن يكون حملتها؟…
وإن المسلم لا يزال في عمل صالح ما دام يدعو إلى الله عز وجل.
يتبـــــــــــــــــــع
د. زكريا المرابط