أما مدلول الإسوة «بكسر الهمزة وضمها» فهو القدوة، قال الراغب الإصفهاني وغيره «الإسوة الحال التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره»(1).
والمسلمون مطالبون بالتأسي برسول الله دون سواه؛ لأنه الأسوة الحسنة، فالله عز وجل اصطفاه، وطهره، واصطفاه على الخلق أجمعين، فكان أعبد الناس لرب الناس، ملك الناس، إله الناس، ولذلك أعلى الله عز وجل قدره، وخلد ذكره، وأعظم أجره، وأعطاه خمسا لم يعطهن نبيا قبله…
وأصل التأسي به قول الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}(2).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله «هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله في أقواله، وأفعاله، وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي يوم الأحزاب في صبره، ومصابرته، ومرابطته، ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين»(3).
وقال غيره: «والآية صريحة في ثنائه عز وجل على الصحابة رضوان الله عليهم لثباتهم وتأسيهم بالرسول الإسوة الحسنة، وتومئ أيضا إلى تعريض بالتوبيخ للذين لم ينتفعوا بهذه الإسوة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض»
ومناسبة الآية أنها جاءت إثر موقف عصيب عقب غزوة الأحزاب التي كانت في السنة الرابعة أو الخامسة للهجرة.
وقد تحدثت سورة الأحزاب عن هذه اللحظة العصيبة التي مرت بها الشخصية المسلمة، وعن أحوالها، وملامحها، وكيف كانت تصاغ وتبنى؟
وتشير كتب السيرة ـ سيرة ابن اسحاق وابن هشام وغيرهماـ إلى أن قريشا وغطفان ومن تبعهما من أهل نجد أرادوا غزو المدينة، فظاهرهم اليهود، وخانوا العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله ، فخرج إليهم رسول الله ، وخندق في الخندق، وجعل الذراري والنساء في الآطام (الحصون).
وأظهر المنافقون جزعا وجبنا شديدين، وأساءوا الأدب مع رسول الله ومع المؤمنين وقالوا {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} وقال قائلهم: كان محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
أما المسلمون فقد زاغت أبصار كثير منهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، وزلزلوا زلزالا شديدا… وقد صور حذيفة هذه الحالة الشديدة التي مرت بها الشخصية المسلمة فقال: «قال رسول الله من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع.. فلم يلب أحد النداء حتى عينني…»
أما الصفوة منهم فقد صبروا وصابروا ورابطوا وأيقنوا بنصر الله عز وجل ووعده، وما زادهم ذلك إلا إيمانا وتسليما.
قال الله تعالى : {ولما رأى المومنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما، من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}(4).
أما التأسي برسول الله ، فإن الله عز وجل جعله متعلقا بذاته دون وصف خاص ليشمل الائتساء به في أقواله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه(5).
وليس في الآية {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة} تفصيل في الواجب من هذا الائتساء والمستحب منه. وأصل الخلاف في ذلك مبثوث في كتب أصول الفقه(6).
غير أن الإمام القرطبي يرى احتمال حمله على الوجوب في أمور الدين، وحمله على الاستحباب في أمور الدنيا(7).
وأفضل ما قرأت في ذلك –خروجا من الخلاف- ما قاله الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله وإن كان الصحيح عنده أن لا دلالة فيه على الوجوب، بل دلالته على الندب أظهر.
قال «إن التأسي به هو أن نفعل مثل ما فعل، ومتى خالفناه في اعتقاد الفعل أو في معناه لم يكن ذلك تأسيا به، ألا ترى أنه إذا فعله على الندب وفعلناه على الوجوب كنا غير متأسين به، وإذا فعل فعلا لم يجز لنا أن نفعله على اعتقاد الوجوب فيه حتى نعلم أنه فعله على ذلك، فإذا علمنا أنه فعله على الوجوب لزمنا فعله على ذلك الوجه»(8).
وإن من جملة حقوق هذه الإسوة: محبته ، وتوقيره، والتأدب معه، والصلاة عليه، والاهتداء بهديه وسنته، وتبليغ دعوة ربه، وكمال التسليم له، والانقياد لأمره…
د. زكريا المرابط
——————–
1 – المفردات 1/22، والكليات ص 114-115
2 – الأحزاب 21
3 – تفسير ابن كثير 3/483
4 – الأحزاب 22-23
5 – تفسير التحرير والتنوير
6 – ينظر الخلاف الحاصل في أفعاله .
7 – الجامع لأحكام القرآن
8 – أحكام القرآن