سخر الشيخ أبو الحسن حياته كلها للدعوة إلى الله، وهو يستحضر قوله تعالى: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}(آل عمران:159)، فكان لين الجانب مع الأولياء، دمث الخلق مع الأعداء، عاش في بيئة تضم الملل والنحل المختلفة، هي الهند، فتوجه بدعوته لا إلى المسلمين وحدهم، بل إلى عموم سكان الهند. وقد أدرك أن المسلمين -ولاسيما بعد انفصال باكستان عن الهند- صاروا من الأقليات (ويسميها أبو الحسن «الأقلية الكبيرة» كما في مسيرة الحياة:3\63)، في مقابل الهندوس الذين ظهرت فيهم حركات متطرفة تسعى إلى طرد المسلمين من الهند، فخاطب جميع الفئات، باعتبار المصلحة الوطنية، ومن هنا فإنه كانت هناك حركة في العالم العربي والإسلامي، الذي لم يشهد تعدد المذاهب والأديان، تهاجم العلمانية، وترى أن دعاة العلمانية يريدون فصل هذه الأمة عن دينها ومقوماتها، ولكن الشيخ أبا الحسن كان يرى أنه لا سبيل للمسلمين في الهند إلى المحافظة على كيانهم إلا العلمانية، وهو ما لم يستوعبه بعض الدعاة، ولا سيما في العالم العربي، أو لم يستوعبوه على الأصح إلا في هذه الفترة التي تسمى بفترة الربيع العربي. أما الشيخ أبو الحسن فقد أعلن بكل وضوح، وفي أكثر من مناسبة، وفي أكثر من موضع، أنه لا سبيل إلى المحافظة على الوجود الإسلامي في الهند إلا العلمانية. ففي 6 أكتوبر 1991 انعقدت ندوة برئاسته، تحت إشراف جمعية المثفين المسلمين لعموم الهند في مدينة لكنؤ، ألقى فيها كلمة، وضرب مثلا برجل ثريّ ورّث ولده حديقة، وأوصاه بعدم اقتلاع شجرة بعينها، فلم يحفظ الوريث الوصية، فلدغته حية.ثم قال:» وهذه الحكاية تنطبق على العلمانية، وهذه أهميتها في الهند، فلو اقتلع أحد هذه الشجرة التي تصون البلاد، وتحفظها من الويلات الكثيرة، واقتلعت معها شجرة (اللاعنف)، لابتلعت الهند حيات التطرف والإرهاب والعصبيات والطائفية، ولن يبقى شيء»(في مسيرة حياة: 3 \ 131).
وانتصارا لفكرة دعوة عموم أهل الهند، بغض النظر عن الدين أو المذهب، أنشأ الشيخ أبو الحسن حركة مباركة، هي (رسالة الإنسانية) وذلك في عام 1951م، وكان يعقد لها الندوات والمؤتمرات، ولأنها كانت دعوة وسطية كان يشارك فيها وجهاء وأعلام من طوائف غير مسلمة، بل ويتولى رئاسة بعض حفلاتها كبار الهندوس. يقول الشيخ أبو الحسن: «لقد كنت مع نشاطاتي العلمية، وانشغالاتي العلمية والأدبية، ورحلاتي الداخلية والخارجية، لا تزال هذه الحقيقة ماثلة أمام عيني: أنه لا يجوز التغاضي، في البلاد التي قررنا أن نعيش فيها ونسكنها، عن تقدير الوضع الصحيح والنزعات الهدامة المثيرة والأخطار المستقبلية، ولذلك كان يستولي علي دائما التفكير في نشر (رسالة الإنسانية)، والقيام بدعوتها على النطاق الواسع، وقد كانت هناك قبل ذلك جولات دعوية في هذا الصدد… وكانت لها نتائجها الطيبة المشجعة، ونظم برنامج جولة في مارس عام 1985م لمنطقة (بنديل كهند)… وكان من خصائص هذه الجولة أن فضيلة الشيخ السيد صدّيق أحمد البانْدَوي…كان يرافقنا في السفر، ويحاول جهده في إنجاح هذه المهمة ومساعدة هذه الجولة بتأثيره الديني والخلقي ومكانته الاجتماعية وشخصيته المخلصة المحببة، فكان يتقدمنا كرائد، وينظم إقامتنا ويضع برنامج الاحتفالات والندوات، وقد رأس الاحتفال في «بنا» أميرها الهندوسي، وأبدى انطباعاته الطيبة…ورأس الحفل في «سيدهي» الدكتور سون سنغ، وهو أخو «أرجن سنغ» كبير الوزراء لولاية مدهية براديش سابقا وحاليا، جاء من «ريوا» لرئاسة الحفل، وأسندت رئاسة الحفل في «ستنا» إلى الدكتور «راتهو» رئيس قسم العلوم.»(في مسيرة حياة: 2 \ 79 ـ 80).
ولقد كانت (رسالة الإنسانية) واجهة من عدة واجهات يشتغل من خلالها الشيخ أبو الحسن، ويبلغ دعوته إلى الله عز وجل.
وقد كان رحمه الله وسطيا في دعوته، سواء أكان الخطاب موجها إلى الطبقات الشعبية أم إلى الطبقات الحاكمة. وإن أسلوب الحكمة المتبع هو الذي أدى إلى إسلام قرية كاملة من المنبوذين.
على أن هناك أمرا مهما نبه عليه الشيخ أبو الحسن، والناس عنه غافلون، وهو كيفية التعامل مع المسلمين، ممن ابتلوا بتبني أفكار هدامة، وممن فتنوا ببعض المذاهب الفكرية والأدبية المخالفة لروح الإسلام، فراحوا يصدرون عنها فيما يكتبون، ويبشرون بها فيما ينشرون، وهم بصفة عامة يحتلون مواقع ذات أهمية كبيرة في الحياة العامة. وهم يمتلكون زمام كثير من المؤسسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ويتحركون من خلال كل ذلك لتشكيل الوعي الجماهيري بما يناسب تصوراتهم وأفكارهم.. ولقد وقف بعض دعاة الفكر والأدب الإسلامي من هؤلاء موقفهم من الأعداء، مما ولد رد فعل عنيفا عند أولئك، وراحو يتهمون، ليس المسلمين فقط، بل الإسلام نفسه بتهم التخلف والرجعية والانغلاق والانعزالية والتطرف وما إلى ذلك من الأوصاف المجافية لروح الحق. أما أبو الحسن فقد نظر إلى هؤلاء على أنهم مسلمون غافلون، فهم بحاجة إلى من ينبههم ويردهم إلى صفوف الأمة ردا جميلا، وذلك ما لا يكون بالقطيعة معهم، بل بالاتصال بهم، ومخاطبتهم على أنهم جزء من الأمة، وعلى أنهم قوة يجب استثمارها بالشكل الذي يخدم الأمة. يقول: «لابد من تفكير هادئ عميق، كيف نرد الطبقة المثقفة التي تحتكر الحياة، وتمتلك الزمام، إلى الإسلام من جديد، وكيف نبعث فيهم الإيمان والثقة بالإسلام، وكيف نحررها من رق الفلسفات الغربية والعصرية ونظرياتها اللادينية؟»(نقلا عن د.اجتباء الندوي، 127).
كم كنا سنوفر على أنفسنا من الجهد لو وعينا هذه الدعوة وعملنا بها؟ كم كنا سنربح من الجنود الذين سينضمون إلى صفوف الأمة، بدلا من أن يبقوا نهبا للفلسفات الغربية، حتى صار بعضهم (طابورا خامسا) لتلك الفلسفات الغربية، على غير إرادة منه؟ وما حجم الخير الذي كنا سنجنيه لو جادلناهم بالتي هي أحسن، ولم ننزلق -كما حدث لبعضهم- إلى مهاوي التفسيق والتكفير، فأعنا الشيطان على إخوة هم منا ونحن منهم؟
أ. د. حسن الأمراني