دخَل كُثيِّر بن عبد الرحمن الخزاعي علَى عبد الملك بن مروان في أوَّل خلافتِهِ، فقال: أأنت كثير؟ فقال: نعم. فاقتحَمَهُ، (أي استصغره واحتقره)، وقالَ: تَسْمَع بالمعَيْدِيِّ خير من أنْ تراهُ !فقال: يا أميرَ المؤمنينَ! كُلُّ إنسانٍ عند محلّهِ رَحْبُ الفناء، شامِخُ البناءِ، عالي السَّناءِ، ثم أنشأ يَقُولُ:
وجـربتُ الأمورُ وجربتني
فـقد أبدت عريكتي الأمورُ
وما تخفى الرجال عليّ إني
بـهم لأخـو مـثاقفة خبيرُ
تَرَى الرَّجلَ النَّحيفَ فتزدريهِ
وفي أثوابِهِ أسدٌ هَصورُ
ويُعجِبُكَ الطَّرير(1)ُ إذا تراهُ
فيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجلُ الطَّريرُ
بُغاثُ(2) الطيرِ أطولُها رِقابًا
ولَمْ تَطُلِ البُزاةُ ولا الصُّقورُ
خَشاشُ الطَّيرِ(3) أكثرُها فِراخًا
وأمُّ النسر مقلاتٌ نَزورُ
ضِعافُ الأُسْدِ أكثرُها زئيرًا
وأصرمُها اللَّواتي لا تَزيرُ
وقد عَظُمَ البعيرُ بغيرِ لُبٍّ
فَلَمْ يَسْتَغْنِ بالعِظَمِ البعيرُ
وتضربه الوليدة بالهراوي
فلا غير لديه ولا نكير
يقودُهُ الصَّبيُّ بكلِّ أرضٍ
وينحره علَى الترْبِ الصَّغيرُ
فما عِظَمُ الرِّجالِ لهم بِزَيْنٍ
ولكنْ زَيْنُهُمْ كرم وخِيرُ
فقَالَ عَبْد الملك : لله درُّه، ما أفصح لسانه، وأضبط جنانه، وأطول عنانه! والله إني لأظنه كما وصف نفسه.
«زهر الآداب للحُصْرِيِّ، وآمالي القالي، والأبيات من مختارات أبي تمام في حماسته»
المعنى :
ينبه الشاعر بهذا القول على أن الرجال لا يوزنون بالميزان وليسوا مما يُطلب لِلحمه أو شحمه، لأن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، وإنما يحمد منه كرمه وفضله وكثرة محاسنه وخيره، وكل ذلك يرجع إلى الأخلاق لا إلى الخَلْق، فلا اعتبار بالعِظَم، ولا فخر في البسطة إذا حصلت في الجسم خاصةً من دون العلم. ثم ضرب المثل بضعاف الطير كالكراكي وطيور الماء فهي من أطولها جسوماً، وأمدها أعناقاً وسوقاً، في حين أن كرائمها كالبزاة و الصقور على عكسها تماما، لكنها تصيد ما وزنه يتضاعف على وزنها، وما طوله وعرضه يتزايد على طولها وعرضها. كما أن بُغاثها أكثرها فراخاً وأوسع نسلاً، على عكس أُمِّ النسر أو الصقر فهي قليلة الفراخ مقلات لا يبقى لها أيضاً ما تفرخه. ولذلك فهي مع قِلتها أقوى من هذه الطيور على كثرتها.
ثم ضرب المثل بذوات الأربع كالبعير الذي مع عِظمه وقوته، وصبره على النهوض بالأعباء الثقيلة، والأحمال العظيمة، تراه مُسخراً بيد الصبي يديره على وجهه كيف شاء وهو ذليل له، وتضربه الوليدة بالعصي أوجع الضرب، فلا يحصل منه تغيير ولا نكير. ليخلص الشاعر في الأخير إلى تأكيد أن العِبرة بمكارم أخلاق الإنسان لا بعِظَم خَلْقه وجسمه.
————-
1 – رجل طرير: له هيئة حسنة، ومنظر جميل، فإذا جربته وجدته إنسانا تافهاً.
2 – البغاث: الضعاف من الطير وصغارها. وهي لا تستطيع أن تصطاد، رغم طول رقابها، على عكس الصقور والبزاة.
3 – خشاش الطير: هي العصافير ونحوها، وهي أكثر الطيور توالداً وتناسلا، على عكس أنثى النسر، فهي نزور في التناسل؛ أي مُقلَّة، حيث تبيض مرة واحدة في السنة، وهي مِقلاة؛ أي لا يحيا لها ولد.