سبق الحديث في العدد السابق عن بعض الوسائل التربوية التعليمية النبوية. ونواصل في هذه الكلمة الحديث عن وسائل أخرى معترفا بعدم إحصائي لكل الوسائل التعليمية التي استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه رضي الله تعالى عنهم. فمن أهمها :
6- الــســؤال : الأسئلة مفاتيح العلوم، وإحسان طرح السؤال عند أهل العلم نصف الجواب، والذي لا يطرح السؤال إما مُسْتَحٍ أو متكبر، وهما معا لا يتعلمان، وإنما تميز العلماء بحضور الهم لديهم والرغبة لطرح الأسئلة الكثيرة وتدقيقها وتنظيمها، واختيار من يتوجه إليه بها والتأدب في إلقائها، ثم حفظ الأجوبة والبناء عليها وهكذا دواليك. وانظر إلى حال حبر الأمة وبحر العلم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كيف كان يسمع بصحابي معه حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيذهب إليه فيجده قائلا فيجلس ببابه ينتظره فتسفه الريح فيتسخ ثوبه وجسمه فلا يبالي حتى ينال مراده، وعندما سئل عن هذا العلم كيف اكتسبه قال : بلسان سؤول، وقلب عقول. ورسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ينشئ أمة العلم، أمة “اِقرأ” -استعمل أسلوب السؤال بشكل كبير في تعليمه لأصحابه وللأمة من بعدهم. والناظر في سيرته وأحاديثه يصعب عليه إحصاء الأحاديث والمواقف التي سأل فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم أصحابه أو أجاب عن أسئلتهم، فلا أملك إلا ذكر بعض النماذج ليقاس عليها، ذلك أن هذه الوسيلة جاءت في التربية النبوية على ضروب منها : > الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل فيجيب الصحابة فيبني النبي صلى الله عليه وسلم على جوابهم قاعدة تربوية ترسخ للأبد، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات في اليوم، أيبقى من درنه شيء؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء، قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)). > الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل، فيجيب الصحابة بحسب علمهم مما لا يوافق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصحح لهم المعلومة ويقيم لهم المفهوم ويوضح المنهاج ويرتقى بالفهم إلى درجات أعلى. تأمل هذا الحديث. قال عليه الصلاة والسلام يوما لأصحابه : أتدرون ما المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال عليه الصلاة والسلام : المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا. فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار”. > الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الصحابة وعندما يعجزون عن الجواب يجيبهم، ومثال ذلك عندما ضرب لهم مثل المؤمن بشجرة دائمة الاخضرار وسألهم عنها فما عرفوها فذكر لهم أنها النخلة، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حاضرا. وهو شاب. فقال لأبيه بعد ذلك : لقد وقع في نفسي أنها النخلة لكنني استحييت أن أجيب وسط شيوخ الصحابة. فقال له أبوه : أما لو أنك أجبت لكان أحب إلي من كذا وكذا. > الصحابة يسألون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب، وله في ذلك أنواع من الأجوبة تستبطن حكما عديدة منها : > تشجيعه للسائل ببيان أهمية سؤاله كقوله لمعاذ بن جبل حين سأله عن عمل يدخل الجنة ويباعد عن النار، فقال عليه الصلاة والسلام : لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، ثم أجابه في حديث طويل. > جوابه كلّ سائل بما يناسب حاله لأن النفوس مختلفة، والاستعدادات متفاوتة والأحوال متنوعة، والرسول صلى الله عليه وسلم … يجيب كل سائل بما يشفي غليله حتى وإن تشابهت أسئلتهم : فمنهم من يحثه على عدم الغضب، ومنهم من يأمره بالبر بوالديه، ومنهم من يدله على الاستقامة… والكلام عن هذا الأسلوب التربوي طويل عريض، وانظر حال الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف انطلق علماؤها يجوبون بقاع الأرض يطرحون الأسئلة عن حاجات الأمة، ويجيبون بما ينفع الأمة فتطورت العلوم وازدهرت بشكل لم يسبق في التاريخ. وانظر إلى حال الأمة اليوم واعجب!.
7- الـموعـظـة : وهي من أهم الوسائل التربوية النبوية لأنها تستهدف القلوب مباشرة لتحدث فيها الانفعال اللازم لقبول غاية الموعظة وهدفها. ذلك أن الوعظ كما يشرحه الراغب الاصفهاني في “معجم مفردات ألفاظ القرآن” هو : زجر مقترن بتخويف، وهو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. ولئن كانت التربية النبوية تهدف إلى إصلاح القلب لأن في صلاحه صلاح الجسد كله فقد استعمل الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب التربوي الناجح، أسلوب الوعظ لأنه يجمع بين أمرين : التذكير والزجر، والتذكير موقظ للقلب من الغفلة والزجر حادي القلب إلى العمل. “إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد”. لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم واعظا في كل أحواله : واعظا في لباسه ومشيته وحركات أطرافه، واعظا في أكله وشربه، واعظا في كلامه وصمته واعظا في فرحه وغضبه… وكان الناظر إليه والجالس معه يتعظ بحاله صلى الله عليه وسلم حتى إذا تكلم بالموعظة بلغ التأثير غايته. أنصت إلى سيدنا العرباض بن سارية رضي الله عنه وهو يروي لنا واحدة من مواعظه، العجيبة صلى الله عليه وسلم يقول : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال : أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة))(رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح). وانظر كيف أن الصحابي الجليل لم يذكر لنا موضوع الموعظة بل وصف لنا حالة المتعظين كيف ذرفت عيونهم استجابة لوجل قلوبهم، حيث تأثر منهم الباطن وانساب هذا التأثر على الظاهر؟! ثم كيف اغتنم الصحابة هذه الحال السامية الشفافة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل يوازي ما هم فيه من شوق وانفعال؟ لأن القلوب أحوال “وإذا واتتك رياحك فاغتنمها”، فأشار عليهم الحبيب صلى الله عليه وسلم بوصية عظيمة هي الفائدة العملية لهذه الموعظة حتى لا تتحول -كما هو حالنا- إلى حالة استرخاء وإفراغ شحنات واقعنا المرير ثم ننفض عن الموعظة صفر اليدين.
8- انـتـهـاز الـمـنـاسـبـات : وهو من الوسائل التربوية النبوية الأكثر تأثيرا لأنه قائم على الاستفادة من الواقع الحقيقي المعيش لاستنباط التوجيهات التربوية المناسبة وهي بدون شك أعظم أثرا من الكلام المجرد، والنبي المربي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع أصحابه في أماكن مخصصة ليلقنهم مجموعة من المعلومات المجردة عن الواقع، بل كان يعيش معهم ويصحبهم ويغشاهم في نواديهم وأسواقهم ويزورهم في بيوتهم ويعلمهم في كل ذلك ما يهديهم ويزكيهم. ألا تراه حين أراد أن يغرس في قلب أصحابه سعة رحمة الله تعالى وعظيم عفوه ووده جل وعلا، كيف توسل إلى ذلك بالمرأة السبية حين وجدت وليدها الرضيع. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بسبي، وإذا امرأة من السبي يتحلب ثدياها، كلما وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟. قالوا : لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال : والله. لله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها))(رواه البخاري ومسلم وغيرهما). أما والله لو قعد أحدنا يتحدث عن رحمه الله تعالى سنين لما استطاع أن يبينها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الالتفاتة وهذه الاستفادة من هذا الحدث العادي -في نظرنا -حدث امرأة تبحث عن رضيعها فتلقمه ثدييها. ولكن التربية النبوية تحول الحدث العادي إلى درس تربوي واقعي بسيط الأسلوب، قليل الكلام، عظيم الأثر. ولما أراد الحبيب إسكان هوان الدنيا في قلوب أصحابه حتى يقدروها قدرها ولا يغتروا بها، فعل ذلك بأسلوب واقعي عجيب، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : مر في السوق داخلا من بعض العالية، والناس كنفتيه (أي جانييه)) فمر بجدي أسك(آي صغير الأذنين) ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال : أتحبون أنه لكم؟ قالوا : لا. قال ذلك لهم ثلاثا، فقالوا : لا والله لو كان حيا لكان عيبا فيه أنه أسك، والأسك : الذي ليس له أذنان فكيف وهو ميت؟ قال : فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم))(رواه مسلم). فانظر إلى الحبيب المربي كيف يأتي أسواق الناس ومعه متربيه وهم كثير؟! وكيف يغتنم فرصة تربوية ما أظن أن ينتبه إليها إلا صاحب حس تربوي رباني عال؟! إنه جدي قبيح وميت قد يتأفف الناس من بشاعة منظره وخبث رائحته، ولكنه صلى الله عليه وسلم يحمله بيده الشريفة ليكون واضحا لأصحابه، ويحاورهم فيه بلغة أهل السوق. وهم في السوق -وهي لغة يفهمونها جيدا. ويكرر عرضه التجاري هذا ثلاث مرات حتى لا يدع مجالا للشك أو التردد، وينصت إلى حجتهم في ترك الجدي الأسك الميت، حتى إذا اطمأن إلى ذلك ألقى إليهم بالدرس التربوي “فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم” فهل يبقى بعد هذا الدرس للدنيا موضع قدم في قلوبهم؟! ووالله إن الدنيا لكذلك. متعتها قليلة ناقصة منغصة، لا يستغنى بها وإنما يستغنى عنها.
د. يوسف العلوي
شكرا على المقال الرائع بناء وفكرا وترتيبا وتوضيحا