روى عبد الرزاق في مصنفه، “عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل. قال: ((إن المؤمن يجاهد بنفسه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما يَرمون فيهم به نَضح النبل))(1).
هذا الحديث من أحاديث الجهاد بالشعر، وهو من ثلاثة أقسام: قسم مِن كلام كعب بن مالك، وقسمان مِن كلام النبي صلى الله عليه وسلم. أما كلام كعب “إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل”، فقد ورَدَ عند الإمام أحمد بصيغة أخرى هي: “إن الله تبارك وتعالى قد أنزل في الشعر ما قد علمت، وكيف ترى فيه؟”(2)، وعند ابن حبان بصيغة: “يا رسول الله ما ترى في الشعر؟”(3).
فكلام كعب -بناء على ذلك- طلب فتوى عن حكم الشعر بعد أن أُنزلت في القرآن الكريم آياتٌ عنه. والذي تطمئن إليه النفس أن الحديث ورد قبل نزول الآيات الأربع من آخر سورة الشعراء وبعد نزول باقي الآيات الخاصة بالشعر” لأن آيات سورة الشعراء واضحة في إباحة انتصار الذين آمنوا من بعدما ظُلموا، وسؤال كعب إنما هو عن وضع شعراء المسلمين قبل ذلك البيان. وأمر آخر يَظهر من الحديث أيضا هو أن كلام كعب ورَدَ في سياق حاجة شديدة إلى الشعر كما يُفهم مِن استعمال النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه للفظ الجهاد والنضح…، وإنما كان كل هذا بعد معركة بدر، فلذلك لم يكن كلام كعب فقط عن حكم الشعر” بل عما إذا كان يمكن توظيف الشعر بعد تلك الآيات في مجاهدة المشركين وقد أمطروهم بوابل من الهجاء وآذوهم. وعلى كل حال فكلام كعب يُفهم منه سؤاله عما إذا كان بالإمكان الرد على المشركين بعد أن اعتدوا على المسلمين، وهو ما يُفهم من الجواب النبوي، والمناسبة بين السؤال والجواب. بقي أن نشير بهذه المناسبة إلى أن سؤال كعب له قيمته من زاويتين: من حيث كون السائل شاعرا، فهو من أهل الاختصاص، وسؤاله من هذه الناحية سؤال من يعرف كيف يسأل ولماذا. ومن حيث كونه دالا على خشية، ورغبة في معرفة الحكم الشرعي، وإيمان بأن الشعر يجب أن يوزن بميزان الشرع، وأن يُمارَس حسب ما يُسمح به.
وأما كلام النبي صلى الله عليه وسلم فمِن قِسمين: قِسم هو قوله صلى الله عليه وسلم : “إن المؤمن يجاهد بنفسه ولسانه”، وعند الإمام أحمد في رواية “بسيفه ولسانه”(4)، وفي أخرى “بنفسه وماله”(5)، وذلك يعني أن الجهاد يكون بالنفس واللسان والمال والسيف، وأن نوع الجهاد ووسيلته مرتبطان بالمناسبة، وحسبنا هذا هنا، فقد سبق أن وقفنا مع حديث شبيه بهذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : “جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم”(6). وينبغي أن لا تفوتنا هنا ملاحظتان: الأولى هي أن رواية الباب “بنفسه ولسانه” مناسبة تماما للسياق، وفحواها أن المسلمين كما جاهدوا من قبل في المعركة بأنفسهم، فليجاهدوا الآن بألسنتهم، وأن المرحلة مرحلة الجهاد باللسان، لا الجهاد بالنفس والسيف. والثانية هي أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم دال على أن السؤال لم يكن عن الشعر، بل عن الجهاد بالشعر، والرد على المشركين” وهذا الذي يَنسجم مع جوابه صلى الله عليه وسلم. وأما القسم الثاني من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو قوله: “والذي نفسي بيده لكأنما يرمون فيهم به نضح النبل”، وفي رواية ابن حبان: “والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل”(7). فقد شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم شِعر الجهاد بالنضح النبل، والنضح في الأصل الرَّش(8)، و”نضحناهم بالنبل نضحا: رميناهم ورشقناهم،… وذلك إذا فرقوها فيهم”(9)، وفيه أن هذا الشعر رمي من بعيد بطريقة مخصوصة لها آثار شبيهة بآثار الرمي بالنبال من حيث الانتشار، وتفريق الخصوم، والإصابة من بعيد، لأن النضح بالنبل يفيد التفريق. وفيه فائدة أخرى هي أن الشاعر مثل الناضح بالنبل، يهاجم المشركين وفي الوقت نفسه يدافع عن نفسه وأصحابه” لأن نضح عن نفسه في اللغة “ذب ودفع”(10)، “وإنما يدافع عنها بما يملك من حجج وبراهين، ومن ثم يتحول الشعر إلى مناسبة للسجال والتدافع الفكري، وهو معنى يحتمله اللفظ لغة كذلك، ففي لسان العرب “نضح عن نفسه إذا دافع عنها بحجة”(11) “(12). ويعني ما سبق أن الرد على المشركين جهاد” لأنه لا يَقل أثرا عن الرمي بالنبل، ولبيان تلك الحقيقة استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوبين: التشبيه لَمَّا شبّهه بالنضح بالنبل، والقسَم لما أقْسَم على أن الأمر كذلك حقّا.
د. الحسين زروق
———
(1)- مصنف عبد الرزاق، حديث رقم 20500. إسناده صحيح، رجاله أئمة كما قال محقق (مسند أحمد، 12/310، هامش الحديث رقم 15725)، وهو في(صحيح ابن حبان، 11/5، حديث رقم 4707)، وقد قال محققاه: “إسناده صحيح على شرط الشيخين”، وأورده الألباني في (الصحيحة، حديث رقم 802 و1949).
(2)- مسند أحمد، م.س.
(3)- صحيح ابن حبان، م.س.
(4)- مسند أحمد، م.س.
(5)- مسند أحمد، 12/320، حديث رقم 15736.
(6)- صحيح سنن أبي داود، حديث رقم 2504، ك. الجهاد، ب. باب كراهية ترك الغزو. وقد علق عليه الألباني بقوله: “صحيح “.
(7)-صحيح ابن حبان، م.س.
8 – مقاييس اللغة:5/438، مادة “نضح”.
9 – لسان العرب:2/620، مادة “نضح”.
10 – لسان العرب، م.س.
11 – لسان العرب، م.س.
12 – نصوص الشعر والشعراء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، 1/490-491.