الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المخلوقين وعلى آله وصحبه أجمعين. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أبرم صفقة تجارية رابحة مع عباده المؤمنين، فقال وهو أصدق القائلين: {إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله قال: “من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ” صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، يتحدث الله عز وجل في كتابه الكريم عن صفقة تجارية بينه وبين عباده المؤمنين. ومن أجل تقريب مفهوم هذه الصفقة من أفهامهم وأذهانهم شبهها بالصفقات التجارية المعهودة في حياتهم، والتي قوامها أو مدارها نشدان الربح، وهو ما يجعلهم يقبلون عليها بحرص شديد. ولقد أغرى الله تعالى خلقه بالربح الكبير من أجل دعوتهم إلى الهداية، وتفضل عليهم بعرض تجاري مغر أشد الإغراء بسبب ربحه العظيم في صفقة من أغلى الصفقات على الإطلاق. والصفقة بين الخالق سبحانه والإنسان المؤمن يبيع فيها الطرفان ويشتريان، علما بأن فعل الشراء في اللغة العربية يدل على البيع والابتياع في نفس الوقت، فيقال شرى الرجل الشيء إذا باعه أو ابتاعه. والله تعالى يشتري أنفس وأموال المؤمنين مقابل الجنة، وهم يشترون الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم. ومعلوم أن قيمة الصفقات التجارية تكون على قدر قيمة السلع وقيمة الربح. ولما كانت سلعة الله عز وجل هي الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فإن تجارتها تجارة رابحة وغير كاسدة ولا خاسرة. وهذه الصفقة خلافا للصفقات التجارية في حياة البشر تحتمل الربح فقط، ولا احتمال فيها للخسارة. وإذا كان الإنسان بطبعه حريصا على الربح، فأولى له أن تغريه صفقة تجارية مع خالقه لا خوف فيها من خسارة محتملة. والخلق باعتبار هذه الصفقة نوعان: نوع يراهن عليها، وفيهم قال الله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}، فهذا النوع يقايض نفسه بمرضاة الله عز وجل. والسلعة في هذه الصفقة غالية اقتضت غلاء الثمن وهو بذل النفس. وبالرغم من غلاء الثمن فيها فإن السلعة أغلى من الثمن إذ لا تساوي الأنفس شيئا أمام رضوان الله عز وجل. أما النوع الثاني فيراهن على صفقة خاسرة، وفيهم قال الله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم}، وهذه الصفقة شيطانية فيها مقايضة الخسارة بالربح أو الضلالة بالهدى، أو مقايضة سلعة غالية بأخرى بائرة وكاسدة، أو مقايضة ما يفنى بما يدوم لقوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} فما أخسرها من صفقة ينفق فيها الغالي من أجل الرخيص. وصفقة الشيطان خاسرة وكاذبة لقوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويامركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم}. فالشيطان مخلوق مفتقر بطبيعة مخلوقيته، ولهذا كان الوعد منه غير مأمون لأن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال، والله عز وجل خالق وبطبيعة ألوهيته وربوبيته يكون الوعد منه مأمونا ومضمونا لأن مالك الشيء يعطيه. والعاقل الكيس من الناس من يعرف الربح من الخسارة فيحرص على الربح، ويتنكب الخسارة، وهو ما أشار إليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة” فالعاقل يحرص على الفوز بالسلعة الغالية تماما كما يحرص الخائف المسافر ليلا على الوصول إلى منزله سالما تجنبا لشرور الليل المحتملة. ومما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا: “كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ” فمن أحسن البيع أعتق نفسه، ومن أساء البيع أوبقها وأهلكها. ومن باعها لخالقه سبحانه فقد أعتقها، ومن باعها للشيطان فقد أوبقها. اللهم اجعلنا ممن يعتقون أنفسهم ببيعها لله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية الحمد لله تعالى والصلاة والسلام على رسوله الكريم وآله وصحبه أجمعين أما بعد، فإن أصحاب الصفقة الشيطانية الخاسرة نوعان: نوع يقايض الكفر بالإيمان ، وهو نوع قال فيه الله تعالى: {إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم}، ونوع يقايض الربح بالإفلاس، وهو نوع قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفسرا بعض أصحابه ذات يوم: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعد، فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا، أخذ من خطاياهم فطرح عليه، ثم طرح في النار” وهذه أخسر صفقة بأفدح خسارة بسبب إفساد الربح بالإفلاس. ولقد حذر الله عز وجل من مقايضة سلعته الغالية بالثمن القليل، فقال وهو أصدق القائلين: {ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} وباعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب يعتبر كل من عطل شرع الله عز وجل مقابل تسويق شرائع الأهواء في حكم من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا. ومن قدم مصلحة شخصية خاصة حرمها الله عز وجل على مصلحة عامة شرعها الله عز وجل فهو أيضا في حكم من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا. ومن لم يبلغ شرع الله عز وجل طمعا في مصلحة خاصة أو خوفا عليها أو خوفا من مخلوق، فإنه في حكم من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا. ومن زين للناس محرما فهو أيضا في حكم من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا. ومن اكتسب ربحا في عبادة، وضيعه في معاملة كان مفلسا في حكم من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا. ومن أربى أو احتكر أو ارتشى أو غش أو ظلم أو أفسد أو ساند ظالما أو مفسدا أو سكت على ظلمه وفساده، فهو أيضا في حكم من اشترى بآيات الله ثمنا قليلا. ومن عطل فريضة النصح من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو في حكم من اشترى بآيات الله ثمنا قليلا. والثمن القليل إنما هو مقايضة عرض الدنيا الزائل بأجر الآخرة الدائم. ومعلوم أن ثمن الجنة محفوف بالمكاره إذ لا ينصح الناصح ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر دون أن يواجه المكاره. عباد الله! اتقوا الله وبادروا إلى الصفقة الرابحة، والتجارة التاجرة معه، واحرصوا على سلعته الغالية، واحذروا سفه مقايضة الفانية بالباقية والبخس بالثمين، واحذروا تضييع الربح بالإفلاس عن طريق مقايضة الحسنات بالسيئات. وابتغوا تجارة لا كساد فيها ولا بوار، وراجعوا صفقاتكم قبل أن ينفض سوق الدنيا الفانية، واحرصوا على رضوان ربكم وجنات عرضها السماوات والأرض أعدت لأصحاب الصفقات الرابحة وهم المتقون.
د. محمد شركي