إن معضلة حوادث السير كغيرها من المعضلات التي تنخر المجتمع هي نتيجة واضحة لحقيقة يأبى كثير من الناس تفهمها والتعاطي معها، ألا وهي حقيقة إقصاء منهج الله عز وجل عن الوجود وحصره في حيز ضيق من حياة المسلمين، وقد يقول قائل: وما علاقة الإسلام بهذه الظواهر الطارئة كحوادث السير التي هي من ظواهر العصر الحديث؟ إن أحوال المهتمين بقضايا حوادث السير لا زالت بعيدة عن معالجة هذه المعضلة من منظور متكامل ولذلك فإن الظاهرة تتفاقم فتخلف وراءها آثارا مضاعفة في حين يقتضي المنطق أن نبحث عن منهج وأسلوب ناجع للتعامل مع الظاهرة من منطلق الثقافة التي يعد الإسلام محضنا لها. وسائل النقل نعم ربانية مسخرة للإنسان : إن العلاقة بين حوادث السير ووسائل النقل علاقة تلازم، فوسائل النقل نعمة من نعم الله على الإنسان سخرها الله عزوجل للإنسان ومن خلالها يحقق الإنسان ذكر الله تعالى حين نتحدث عن وسائل النقل. لقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تبارك وتعالى سخر هذه الوسائل للإنسان ، وكان من واجب المنعم عليه أن يؤدي شكر الله على ذلك ومقتضى الشكر يتمثل في ذكر الله مسخر هذه الوسائل يقول الله تعالى: {والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} فهل يستحضر السائقون هذا البعد الإيماني في تسخير وسائل النقل لتكون كما أرادها الله سبحانه، فيؤدوا شكرها؟ وهل يستحضر المهتمون بقضايا حوادث السير هذا البعد في تذكير السائقين؟ إن جميع الوصلات الإشهارية في إعلامنا وفي ما يوزع على السائقين من وثائق للتحسيس تغيب فيها هذه الإشارات الإيمانية في تذكير الناس بأهمية المراكب ووسائل النقل… إن تغييب هذا البعد الإيماني عند السائقين وعند المسؤولين هو اللبنة الناقصة في تنمية العلاقة بين السائق ووسيلة نقله، ومن ثم يُعدُّ ذكرُ الله والإحساسُ الدائم بضرورة الانقلاب إليه دافعا وحافزا على الوعي والتذكر والتبصر. إن السائق الذي يركب سيارته ويغيب ذكر الله وهو على أهبة السفر يحرم نفسه من معين يعينه ومن حافظ يحفظه بل إن من السائقين من يتخذ وسائل أخرى يتسلى بها داخل سيارته من شرائط خليعة وموسيقى صاخبة وخمرة مسكرة فيظن أنها تخفف عنه وعثاء السفر وطول الطريق، والواقع أن حاله يوحي أنه قد استغنى عن الله تعالى فهو مالك السيارة وصاحب الأمر والنهي فيها، حتى إذا وقع ما لا يحمد عقباه أدرك الغافل أنه لم يقدر نعمة هذه الوسيلة حق قدرها. من أسباب حوادث السير : إن المتأمل في الأسباب الداعية إلى وقوع هذه الحوادث المؤلمة، يستطيع بكل أمانة أن يدرك هذه الأسباب، فمنها ما يعود إلى الإنسان بنسبة كبيرة ومنها ما يعود إلى أسباب موضوعية ليس للإنسان فيها يد.
1- مسؤولية الإنسان: لا شك أن الإنسان هو محور التكليف والمستهدف بالخطاب،فالشريعة كلها خطاب للإنسان. وحين نبحث عن الإنسان باعتباره سببا في هذه الحوادث ندرك مسؤوليته الجسيمة. والإنسان حين يفقد مقومات التربية الإسلامية فيغدو إنسانا فاقدا للدين والأخلاق فإنه من الطبيعي أن ينعكس أثر هذه التربية السلبي على قيادته لسيارته، ولذلك يبدو السائق مندفعا متهورا لأنه يجهل قيمة الأناة والحلم والتروي، فهو لا يعلم أن الإسلام نهى عن التهور والاندفاع لكونه يقود إلى الهلاك، وقد قال سبحانه: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} ومن المؤكد أن التهور والاندفاع أثناء السياقة يؤدي إلى التهلكة، في حين يثنى الإسلام على المسلم المتأني الهادئ الذي يتصف بالحلم والأناة فقد قال النبي ص في وصف رجل ” إن فيك خصلتين يحبهما الله:الحلم والأناة”(ابن ماجة4188)، ويقول عليه السلام: ((إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى))، والمنبت هو الذي يتعب دابته. ومن معاني الإتعاب الإفراط في السرعة الذي يعد واحدا من الأسباب في وقوع الحوادث. وإذا كانت العجلة والسرعة طبعا من طباع الإنسان، فإذا أضيف إليها غياب التربية القائمة على الإيمان باحترام وتقدير كل ما ينبغي احترامه، فإن ذلك يزيد في استهتار الإنسان بكل القوانين عمدا، والسبب يعود إلى نمط التربية التي تربى عليها الإنسان، وكيف لمن تربى على الفوضى في أسرته، في محيطه الذي يشجع الفوضى ويسهلها أحيانا، كيف يجد في نفسه استعدادا لاحترام قوانين السير إذا كان خلق احترام الغير غائبا في حياته، وهذا خلل يتحمل تبعاته الآباء والمربون والمسؤولون كل بحسب موقعه واختصاصه. إن السائق الذي فتح عينيه طفلا على مجتمع لا يعرف النظام ولا يقدر القانون أنى له أن يمتثل للقانون. إن القوانين وضعت لتحترم وتقود الناس، لكن حين تصبح هذه القوانين نصوصا صماء عديمة المفعول تفقد مصداقيتها لدى الإنسان، فلا يجد حرجا في انتهاكها، فكيف يُلزَم السائق وحده في مناخ يغيب فيه تطبيق القانون على الناس على حد سواء، فيطبَّق على المواطن البسيط ويستثنى منه صاحب المنصب والمال . إن توظيف القانون بهذا الشكل يقتل في الناس الاستعداد للامتثال والاحترام.
2- أم الخبائث: لقد أثبتت الإحصائيات أن أكبر حوادث السير مرده الخمر أم الخبائث لكون السائقين يقودون سياراتهم في حالة سكر، ونحن نعلم أن الخمر حرام شرعا وممنوعة قانونا، فأين يجد السائقون الخمر ليحتسوها ؟ لا شك أن فعل بيع الخمر بشكل طبيعي سبب أساسي في حوادث السير، فلماذا يطلب الإنسان الخمر فيجدها؟ يشربها في سيارته على مرأى من الناس، أو قبل امتطاء سيارته، هذه الخمر التي ندرك أثرها السيء على العقول والأرواح والاقتصاد، ويزداد المرء عجبا حين يعلم أن مداخيل الدولة من الخمر تزيد عن ملياري سنتيم وأن لكل ألف نسمة ببلدنا توجد نقطة من نقط بيع الخمر في مقابل نقطة بيع لكل عشرة آلاف نسمة بفرنسا ، إنها مفارقة عجيبة ، ثم يقال : لماذا ترتفع نسبة حوادث السير ببلدنا؟ فلماذا لا يُوفَّر المال ويُحافَظ على الأرواح بتطبيق القانون الذي يمنع بيع الخمر ويقوم بزجر المروجين والمهربين لأم الخبائث؟ إن هذه الخمر تتسبب يوميا في حوادث فظيعة، ومن ثم فإن أول خطوة يجب القيام بها لتقليص الحوادث هو منع الخمر من التداول والبيع ، وما لم يعالج المشكل من جذوره فستبقى الخمر من أكبر الأسباب في وقوع حوادث السير وفي غيرها من الحوادث داخل المجتمع.
3- فقدان أهلية السياقة: وهو واحد من جملة الأسباب، فكم من سائق لا يتقن السياقة ويُشهد له بالأهلية فتسلم له رخصة السياقة .. إن التساهل في تسليم رخص السياقة لشباب أوأشخاص غير مؤهلين عامل أساسي في وقوع الحوادث، ولعل من إيجابيات السنين الأخيرة أن تم التشديد في اجتياز امتحان السياقة واقتضت الصرامة أن تعتمد مقاييس تقنية معاصرة، ومع ذلك يبقى الحرص قائما على الالتزام بالقانون بعيدا عن تلقي الرشوة أو توكيل الوسائط.
4- هشاشة البنية التحتية: فكثيرة هي الطرق التي أصبحت قديمة تآكلت بفعل الزمن ولذلك كان تذليل الطرق وإصلاحها مطلبا أساسيا في التقليل من الحوادث وذلك يدخل ضمن النعم التي امتن الله بها على الإنسان،فقد قال الله تعالى : {الذي جعل لكم الأرض مهادا وسلك لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون}،والسبل هي الطرق التي يسلكها الإنسان، ولقد كان عمر رضي الله عنه عنه يقدر جسامة المسؤولية وخطورة الأمانة؛ وقد بلغ به الحرص الشديد على أمر قد لا يُلتفَت إليه حين قال : “لو ضاعت بغلة بالعراق لخشيت أن أسأل عنها يوم القيامة: لِمَ لَمْ تُسَوَّ لها الطريق” فكيف يكون الأمر حين تصبح الطريق سببا في وقوع حوادث السير وهلاك كثير من الناس؟ إن السائقين يؤدون كل سنة ضريبة على سياراتهم تخصصها الدولة لإصلاح الطرق، فلماذا تظل بعض الطرق غير صالحة ؟ إن إصلاح الطرق كفيل بالتقليل من حوادث السير لا محالة. في ضرورة التربية الإيمانية لدى مستعملي الطرق : إن توعية الناس بأخطار حوادث السير ينبغي أن تعالج معالجة شاملة تعتمد الترغيب والتحفيز والإقناع بإجراءات ملموسة يرى السائق أثرها على أرض الواقع وليس فقط بسن قوانين زاجرة اقتداء بالدول المتقدمة ، فلابد من تحرير أصل المشكل وتكاثف الجهود بين المسؤولين والسائقين والمؤسسات القائمة كل بحسب مسؤوليته : آباء وعلماء ومتخصصين اجتماعيين للحد من هذه الحوادث المفزعة التي تحصد أرواحا بريئة وتخلف يتامى وأرامل وتكلف الدولة أرواحا بشرية هي في حاجة ماسة إليها. لقد آن الأوان لامتلاك الشجاعة بالاعتراف بقصور القوانين وحدها، فما أحوجنا إلى إحياء منهج الإسلام في التعاطي مع هذه المشكلات المعاصرة، هذا المنهج التربوي الإسلامي الذي يربط الإنسان بربه فيحافظ على نفسه وعلى الآخرين لأن قتل نفس بغير حق هو قتل للناس أجمعين، قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} ولا شك أن إحياء النفس سبيله تطبيق منهج الله عز وجل وسياسة الناس به.
ذ. كمال الدين رحموني