يتناول هذا البحث بعضا من مظاهر الوسطية، باعتبارها منهجا اتصف به الشيخ أبو الحسن الندوي في حياته فكرا وسلوكا. وسأرصد هذه الوسطية من خلال المحاور الاتية:
1 ـ الوسطية في العبادة .
2 ـ الوسطية في السلوك.
3 ـ الوسطية في الدعوة.
4 ـ الوسطية في الأدب والثقافة.
5 ـ الوسطية في السياسة.
6 ـ الوسطية في الموقف من الحضارة الغربية.
استهلال: في مفهوم الوسطية في الصحاح للجوهري (مادة:و.س.ط.): كل موضع صلح فيه “بين” فهو وسْط، بتسكين السين، وإن لم يصلح فيه “بين” فهو وسَط، بالتحريك.فالوسْط، بالتسكين، يكون بين شيئين، وأما الوسَطُ، بالتحريك، من كل شيء فهو أعدله. ومنه قوله تعالى: {قال أوسطهم ألم أقلْ لكم لولا تُسبِّحون}(القلم:28)، أي أعدلهم. وقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا}(البقرة:143)، أي عدلا، فهي أمَّة العدل. ويقال: فلان وسيطُ في قومه، إذا كان أوسطهم نسبًا، وأرفعهم محلا. ويقال أيضا:شيءٌ وسط، أي بين الجيد والرديء. وقال الراغب في مفرداته، مادة:(و.س.ط): “وسَط الشيء ما له طرفان متساويا القدر. ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد إذا قلت وسَطُهُ صَلْبٌ وضربت وسَط رأسه بفتح السين. ووسْطٌ بالسكون، يقال: في الكمية المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو وسْط القوم كذا. والوسَط تارة يقال: فيما له طرفان مذمومان. يقال: هذا أوسطهم حسباً إذا كان في واسطة قومه،وأرفعهم محلا، وكالجود الذي هو بين البخل والسرف فيستعمل القصد المصون عن الإفراط والتفريط، فيمدح به نحو السواء والعدل والنصفة، نحو: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً}(البقرة:143) وعلى ذلك: {قال أوسطهم}(القلم:28)،وتارة يقال فيما له طرف محمود ومذموم كالخير والشر ويكنّى به عن الرذل، نحو قولهم:فلان وسط من الرجال تنبيها أنه قد خرج من حد الخير.” ومن النصوص الدالة على أنّ (أوسط الناس نسبًا أشرفهم) ما جاء في الكامل للمبرّد(4_365)، من رسالة بعث بها محمد بن عبد الله الحسني إلى المنصور: (فأنا أوسط بني هاشم نسبًا، وخيرهم أمًّا وأبًا). واستئناسا بالمعنى القرآني لا يكون الشيء وسطا إلا إذا كان عدلا ، والنسبة وسَـطِـيَّة، وعلى هذا فالوسطيَّة هي فضيلة بين رذيلتين، والاعتدال ما كان بين الإفراط والـتـفريط، ولكن هذا لا يعني أن الوسطية تعني الوقوف بين شيئين، فليس هنالك توسط بين الخير والشرّ، ولا بين النُّور والظَّلام، ولا بين الفجور والتَّـقْـوى، ولا بين الإيمان والكفر. والوسطيّة هنا، أي العدل، يقتضي الصدع بالحقّ واتّـــــباعه، وما سواه هو الهوى الذي نهينا عن اتباعه واتخاذه ربًّـــا. وحين يستقيم مفهوم الوسطيّة في وجدان المؤمن، ويخالط شَــغاف قلبه، يصطبغ كله ذاتًا وفكرًا وسلوكًا بهذه الوسطية، فتنعكس على حياته كلِّها، وهو يردِّد قول الحقِّ سبحانه: {قل إنَّ صلاتي ونُـسُـكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين}(الأنعام:163). وبهذا تحقَّـق الشيخ ابو الحسن الندوي رحمه الله تعالى، فصارت الوسطية عنده منهجًا وسلوكًا انعكس على كل حركاته وسكناته. ونحن نريد أن نتلمس ذلك من خلال بعض المظاهر المحددة.
1- الوسطية في العبادة:
كان الشيخ أبو الحسن رحمه الله حريصا على اتّـــباع السنة في كل شيء، وأهمّها العبادة، فكان يحرص على التقيد بآداب الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة. ونحن نعرف أن بلاد الهند بيئة ترعرع فيها الغلو في العبادات، كما نقلنا سابقا عن العلامة سليمان الندوي، وأن بيئة مثل هذه كان يسهل أن يــجـــرَّ فيها الإنسان إلى الغلوّ والمغالاة، وقد أصاب ذلك الغلوّ حتى بعض الفئات المسلمة، ولكن حرص الشيخ أبي الحسن على الالتزام بالسنة حماه من الوقوع في الغلو، ومن هنا ألف كتابه الشهير: (ربانية لا رهبانية)، ومعلوم أن جذور الغلـــوّ كانت قد بدأت في العهد الأول للإسلام، كما هو واضح في حديث الرهط الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها فكأنهم تقالوها، ثم قالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الثاني: وأما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فأعتزل النساء، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))(متفق عليه). وهذا نص مما يقوله الشيخ أبو الحسن رحمه الله، (من كتابه: ربانية لا رهبانية)، وهو شديد الدلالة على ما نريد: (إنني لا ألح على منهاج خاص من التزكية درج عليه جيل من أجيال المسلمين، واشتهر في الزمن الأخير بالتصوف -من غير حاجة إلى ذلك- فقد كان في كلمات الكتاب والسنة ومصطلحاته غنى عنه، ولا أبرئ طائفة ممن تزعم هذه الدعوة وتضطلع بها، من نقص في العلم والتفكير، أو خطأ في العمل والتطبيق، ولا أعتقد عصمتها، فكل يخطئ ويصيب، ولكن لا بد أن نملأ هذا الفراغ الواقع في حياتنا ومجتمعنا، ونسد هذا المكان الذي كان يشغله الدعاة إلى الله والربانية والمشتغلون بتربية النفوس وتزكيتها وتجديد إيمانها وصلتها بالله والدعوة إلى إصلاح الباطن، والعناية بالفرد قبل المجتمع). فهذا النص شديد الأهمية، فهو بالإضافة إلى دعوته إلى الوسطية في العبادة، يدعو إلى أمر بالغ الأهمية، وهو عدم الوقوع في فخّ مصطلحات مستحدثة لا تستوجبها الحاجة، والاكتفاء بالمصطلحات القرآنية، ذلك بأن العدول عن المصطلح القرآني إلى سواه هو بداية الزلل، لأن كل مصطلح يجر من ورائه دلالاته التي قد تبعد قليلا أو كثيرا عن دلالات المصطلح القرآني. وهكذا فإن اختيار مصطلح التصوف، بدلا من المصطلحات القرآنية، كالتزكية والربانية، كان مدخلا لكثير من التصورات، بل والسلوكات أيضا، التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تكن على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
أ. د. حسن الأمراني