عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصر ظالما ؟ قال تأخذ فوق يديه<(1).
مقدمة : إن الأصل في الإنسان المسلم أن يتقي الاعتداء- قدر الإمكان- على أي كائن ذي كبد رطبة. فهو أن يتقي الاعتداء على الإنسان أحرص، وأشد من ذلك حرصا أن يتقي الاعتداء على دم أو مال أو عرض مسلم. . وهذا الموقف على إيجابيته لا يكفي دائما، فإن الاعتداء على المسلم قد يأتي من مسلم آخر أو حتى من غير مسلم، فهل يكتفي المسلم بأن يكف شره عن أخيه؟ ولا يبالي به إن جاءه الشر من غيره؟ وكيف إذا كان المسلم هو نفسه مصدراً للشر الذي يكتوي به عاجلاً أو آجلاً؟ وهل يقول المسلم آنئذٍ : “إن الأمر على الكفاية فلِمَ أتحمل النتائج المباشرة وحدي”؟.. لا بد له من التدخل في حدود طاقته لنصرة أخيه! لا يليق به أن يبقى مكتوف الأيدي.. ولا أن يمر غير مكترث: قال صلى الله عليه وسلم : ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما))(2) إن الأمر على الكفاية نعم، ونصر المسلم مسؤولية الجميع. لكنها تختلف من شخص لآخر.. ولا يمكن أن تسوي الشريعة فيها بين الشاهد والغائب ولا بين القادر والعاجز.. إن نصر المسلم أمر محكم لم يُـنسخ ولن يُـنسخ(3) لأنه من أصول الأخلاق وأصول المعاملات. ولأنه قيمة إنسانية ذاتية لا تمليها ظروف خاصة تزول بزوالها، ولا تبلى بسبب من الأسباب بل هي باقية ما بقي اجتماع بني الإنسان وحاجتهم إلى الاشتراك والخلطة(4).
وهو من أبرز سمات المجتمع المسلم في علاقات أبنائه. إن نصر المظلوم أمر يتناغم مع النفوس السوية والفطرة السليمة فتطرب له، ولا يوجد مظلوم إلا مع وجود ظالم. ولا يُـنصر مظلوم إلا بتأديب الظالم والانتصار منه … لكن المثير في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمره بنصر الأخ الظالم أيضا، وهو ما أثار سؤال الصحابة رضي الله عنهم واندهاشهم مع يقينهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمزح في الأمر وأنه لا ينطق عن الهوى ولذا فكلامه لا يخلو من حكمة وعمق لم يدركوه ولذلك قالوا: ((…ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟)). والحقيقة أن عنصر الإثارة والتشويق لم يخل منه منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه رضي الله عنهم ابتداءً وتربية الأمة بالتبع. إن مقولة ((اُنصر أخاك ظالما أو مظلوما)) من مقولات الجاهلية، قال المفضل الضبي في كتابه “الفاخر” إن أول من قال اُنصر أخاك ظالما أو مظلوما هو جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتاده من حمية الجاهلية لا على ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول شاعرهم: “إذا أنا لم انصر أخي وهو ظالم على القوم لم أنصر أخي حين يُـظلم”(5) وأين هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ؟ هذه دعوة إلى العصبية. وقد روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: “… ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى العصبية أو ينصر عصبة فقتل فقتله جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه(6) وقال صلى الله عليه وسلم : ((من نصر قومه على الحق فهو كالبعير الذي رُدِّيَ فهو ينزع بذنبه))(7). وكل ما أباحه صلى الله عليه وسلم هو محبة القوم التي لا تحمل صاحبها على تجاوز الحق فقد سئل صلى الله عليه وسلم: “أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال لا ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم”(8) ومما يدل بالقطع أن الحديث لا يمُـتُّ إلى العصبية بأي صلة سبب وروده كما أخرجه الإمام أحمد عن جابر قال: اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أدعوى “الجاهلية” فقالوا لا والله إلا أن غلامين كسع أحدهما للآخر فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما فإن كان ظالما فلينهه فإنه له نصرة وإن كان مظلوما فلينصره))(9) كل ما في الأمر هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احترم مشاعر الجاهلية واعتمد مقالتهم – التي كانوا يتداولونها ويعتبرونها نوعاً من التعبير الصادق أو الأصح والأوحد عن الأخوة- اعتمده كوعاء يقوي العلاقات ويربط جسور التواصل، يتبني المألوف كأرضية مشتركة لكنه يملأ الوعاء بمفهوم جديد: محاربة الظلم بصرف النظر عن الظالم وعن المظلوم، والقضاء على مركزية العشيرة التي كان يمثلها قول الشاعر: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد والسعي إلى تكوين مجتمع يأبى أفراده الظلم، وإلى حماية الأخ من أن يكون ضحية الظلم أو مصدراً للظلم وأحق الناس بالنصرة الأخ الظالم لأنه في نفس الوقت مظلوم باعتبار أن عمله له عواقب سيئة يندم عليها في العاجل أو الآجل. قال تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}(الطلاق : 1). لأن يوم الحق أشد على الظالم من يوم الباطل على المظلوم. وقد أسس هذا الحديث لمبدأ رائع من مبادئ الإسلام وحل إشكالاً كبيراً من إشكالات الاجتماع، هو أن المسلم يحب أخاه ويحب الحق وحتى لا يحتار فيما يختار، أخاه أم الحق جاء هذا الحديث للجمع بين الأخوة والحق. والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم. وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجاباً عاماً على قدر المكلفين وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق…}(الشوري : 42) إن الناس قبل نور الإسلام لم يكونوا مدركين للمعاني بهذا العمق، وما كانوا يتصورون أن يكون الإنسان عدوّ نفسه وأنه ينال من نفسه ما لا ينال منه عدوّه، وأنه كما يحتاج إلى من ينصره من عدوّه فإنه يحتاج إلى من ينصره من نفسه. وهذا النصر نوع من التعزير: قال الراغب(10) في تفسيره لفعل عزر: “التعزير: نصرة مع تعظيم”. والتعزير: تأديب دون الحد وهو يرجع إلى الأول فإنه تأديب. والتأديب نصرة بقهر ما. لكن الثاني (أي انصر أخاك مظلوماً) نصرة لقمع العدوّ عنه والأول (أي انصر أخاك ظالماً) نصرة بقهره عن عدوّ. فإن أفعال الشر عدوّ للإنسان فمتى قمعته عنها نصرته وعليه حديث اُنصر أخاك ظالما أو مظلوما. وقال ابن بطال النصر عند العرب الإعانة وتفسيره لنصر الظالم بمنعه(11) من الظلم من تسمية الشيء بما يؤول إليه وهو من وجيز البلاغة. وفي تحفة الأحوذي قال:” تكفّـه عن الظلم أي تمنعه من الفعل الذي يريده، فذاك نصرك إياه، أي على شيطانه الذي يغويه أو على نفسه التي تطغيه”. وقال البيهقي: “إن الظالم مظلوم في نفسه فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حسّـاً أو معنى”. ولا شك أن الحديث بصيغه المختلفة والتي استحوذ عليها بشكل كبير تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : ((انصر أخاك ظالما…)) من قبيل الكف والنهي والإمساك والمنع، والأخذ فوق اليد تفيد أن الكف عن الظلم يكون بالقول وإلا فبالفعل وعبر عنه بالفوقية : إشارة إلى الأخذ بالقوة والاستعلاء… وهذا السلوك ضرورة اجتماعية لأن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده. ومما يعنيه نصر الظالم أخذ الحق منه ورده إلى أهله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: ((خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف)). وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}(البقرة : 194) والخلاف فيما إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله فقيل لا يأخذ إلا بحكم الحاكم وللشافعي قولان أصحهما الأخذ قياسا على ما لو ظفر له بمال من جنس ماله” وقوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما}(النساء : 148) قال الفراء: “إلا من ظلم” يعني “ولا من ظلم” وكان الله سميعا عليما، تحذير للظالم حتى لا يظلم وللمظلوم حتى لا يتجاوز الحد في الانتصار. إن الإسلام -بدعوته إلى نصرة الأخ الظالم- بمفهومها الجديد قد أضاف إلى الإنسانية قيمة ما كان لها أن تصلها ورفعها إلى مستوى عالٍ في نظم العلاقات بينهم على أساس الحق، وارتقت البشرية بهذه القيمة مرتقى عظيما تتجاوز فيه الغضب والمساندة للذوات من الأشخاص والقبيلة… إلى الغضب والمساندة للقيم… ما كان للإنسان أن يشرع لبني جنسه هذه الشرائع وهو “الظلوم الجهول” لولا منة الله وهدايته، {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسلنا ربنا بالحق}(الأعراف : 43).
د. لخضر بوعلي
——-
1- الحديث أخرجه البخاري في كتاب المظالم باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما عن أنس بن مالك رضي الله عنه . وورد الحديث أيضا في سنن الترمذي وصحيح بن حبان وسنن الدارمي ومسند أحمد من طرق مختلفة.
2- متفق عليه
3- من الأمور التي لا تنسخ الأصول العامة في العقيدة والعبادات والأخلاق والأخبار
4- {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}(سورة ص 24).
5- تحفة الاحوذي
6- رواه مسلم ج 3 / ص 1476 وفي ج 3 / ص 1478 عن جندب بن عبد الله البجلي كما أخرجه أحمد في مسنده ج 2 ص 296 عن أبي هريرة والطبراني في المعجم الأوسط ج 4 / ص 192 عن أنس بن مالك
7 – أخرجه أبو داود ج 4 ص 331 عن أبن مسعود رضي الله عنه
8- أحمد في مسنده عن امرأة من فلسطين اسمها فسيلة عن أبيها.
9 – أحمد ج 3 / ص 323 وقد تفرد الإمام أحمد بهذه الرواية المتضمنة لسبب الورود والحديث أخرجه الإمام البخاري في ج 2 ص 863 عن أنس ابن مالك، وأخرجه ابن حبان ج 11 ص 570-571 عن أنس وابن عمر والترمذي ج 4 أ 523 عن أنس والدرامي 22 / ص 401 عن جابر.
10- المفردات في غريب القرآن، ص: 564.
11-”تكفه عن الظلم” في تفسيره صلى لله عليه وسلم لنصر الظالم في رواية ابن حبان ورواية الترمذي وكذلك النهي عن الظلم الوارد في رواية أحمد وسنن الدارمي. والإمساك عن الظلم في رواية ابن حبان: