315 “قصة الفيل” : الدلالة والعبر المستفادة منها
{ألـم تـر كيف فعـل ربّــك بـأصحاب الفـيـل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسـل عليهم طيـرا ابـابيل تـرميهم بحجارة من سجّيل فجعلهم كعصف مـاكـول}
تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة، عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير، ومحضن العقيدة الجديدة، والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض، وإقرار الهدى والحق والخير فيها..
وجملة ما تشير إليه الروايات المتعددة عن هذا الحادث، أن الحاكم الحبشي لليمن : >أبرهة<، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة وجمع لها كل أسباب الفخامة، على نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة، وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكُمهم إلى هذا البيت، وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية..
فوجه أبرهة جيشه وفيله لمكة، فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا.
وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة، فقالوا : خلأت القصواء (أي حرنت) فقال رسول الله : >ما خَلأت القصواء، وماذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل..<(أخرجه البخاري) وفي الصحيحين أن رسول الله قال يوم فتح مكة : >إن الله حبس عن مكة الفيل وسَّلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادتْ حُرمتها اليوم كحُرْمتها بالأمس، ألا فليبلِّغ الشاهد الغائب<…
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحْصِبُهم بحجارة من طين وحجر، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة. كما يحكي عنهم القرآن الكريم…. وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أُنْملةً أنملة، حتى قدموا به صنعاء، فما مات حتى انشق صَدْرُه عن قلبه..
فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة…
وأول ما يوحي به أن الله سبحانه لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين، ولو أنهم كانوا يعتزون بهذا البيت، ويحمونه ويحتمون به، فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركين يُهزَمون أمام القوة المعتدية. وتدخلت القدرة سافرةً لتدْفَع عن بيت الله الحرام، حتى لا تكون للمشركين يدٌ على بيته، ولا سابقةٌ في حمايته، بحميتهم الجاهلية…
ولقد كان من مقتضى هذا التدخل السافر من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام أن تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسِدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانعَ لهم من الإسلام! وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم، والتعجيب من موقفهم العنيد!
كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدّر لأهل الكتاب -أبرهة وجنوده- أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة. حتى والشرك يدنسه، والمشركون هم سدنته. ليبقي هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين، مصوناً من كيد الكائدين. وليحفظ للأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة، لا يهيمن عليها سلطان، ولا يطغى فيها طاغية، ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليُهَيْمن على الأديان وعلى العباد، ويقودَ البشرية ولا يُقاد. وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحدٌ أن نبي هذا الدين قد وُلِد في هذا العام!
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية، ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة، فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنتُه مشركون، سيحفظه إن شاء الله، ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين!
والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض، بل لم يكن لهم كيان قبل الإسلام، كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة، وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحياناً تقوم تحت حماية الفرس. وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم إما مباشرة وإما بقيام حكومة عربية تحت حماية الرومان.. ولم ينج إلا قلبُ الجزيرة من تحكُّم الأجانب فيه. ولكنه ظل في حالة بداوة أو في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية. وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنة، ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقة أو مجتمعة ذات وزن عند الدول القوية المجاورة. وما حدث في عام الفيل كان مقياساً لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي.
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه. وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب. قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش، وتتولى قيادة البشرية، بعد أن تزيج القيادات الجاهليةَ المزيَّفة الضالة.
ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نَسُوا أنهم عرب! نسوا نعرة الجنس، وعصبية العنصر، وذكروا أنهم مسلمون، ومسلمون فقط، ورفعوا راية الإسلام، وراية الإسلام وحدها.
وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة وبراً بالبشرية، ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية. حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه.
وخرجوا من أرضهم جهاداً في سبيل الله وحده، ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها، ويُخْرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حُكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده، كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : >الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام<(البداية والنهاية لابن كثير).
عندئذ فقط كان للعرب وجود، وكانت لهم قوة، وكانت لهم قيادة.. ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله. وقد ظلت لهم قوتهم، وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة. حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم، وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتْهم الأرض وداسَتهم الأمَمُ، لأن الله قد تركَهم حيثما تركُوه، ونسيَهم مثلما نَسُوه!
وما العرب بغير الإسلام؟ ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة؟ وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة؟
إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة، والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحو الشرق، والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلاً، إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها.
والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية، وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة، فإذا تخلوا عنها لم تعُد لهم في الأرض وظيفة، ولم يعُد لهم في التاريخ دور..
وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيداً إذا هم أرادوا الحياة، وأرادوا القوة، وأرادوا القيادة.. والله الهادي من الضلال…
> الظّلال : للشهيد سيد قطب رحمه الله