روى الإمام البخاري ((عن سعيد بن المسيب قال: مر عمر في المسجد وحسان ينشد، فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟)). قال: نعم))(1). وفي رواية عند الإمام البخاري أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف “أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة”(2)، فنحن أمام أحد شهود تلك النازلة. وهناك مسألة غامضة في الروايتين السالفتي الذكر، إذ لا تسعفاننا في معرفة ما الذي جعل حسان بن ثابت يقول ما قاله، وأن يستشهد أبا هريرة، وذلك ما تكشفه رواية الإمام مسلم، فقد روى عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن عمر مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال: كنت أنشد، وفيه من هو خير منك…))(3)، فظهر أن كلام حسان مرتبط بلحظ عمر رضي الله عنه.
والحديث بناء على ما سبق من ثلاثة أقسام:أما القسم الأول ففيه إنشاد حسان الشعر في المسجد، وقد رأينا في الحديث السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَضع له منبرا في المسجد فيقوم عليه يهجو مَنْ هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك يُفهم أن حسان بن ثابت له تاريخ في الإنشاد في المسجد، وأنه بناء على ذلك حافظ على عادته تلك. وإذا كان الأمر في أصله قد ارتبط بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الشاعر لم يقصره على ذلك، بدليل أنه أنشد فيه بعد وفاته، فظهر من ذلك أنه فَهم مِن وَضْع منبر له في المسجد وإنشاده الشعر عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمر يتعلق برخصة في إنشاد الشعر في المسجد. وموضوع القسم الثاني مرور عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في المسجد وحسان يُنشِد الشعر ولحظه، و”لَحَظَه يلْحَظُه لحْظا ولحظانا ولَحَظَ إليه: نظر بمؤخر عينه من أي جانبيه كان، يمينا أو شمالا، وهو أشد التفاتا من الشزر”(4)، ومنه يُفهم أن نظرةَ عمر صلى الله عليه وسلم نظرةُ إنكار، وأن حسان بن ثابت فَهِمَ مقصوده، وسارع بالجواب. ومعلوم أن إنشاد حسان الشعر في المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليخفى عن عمر، لا سيما أنه مرتبط بنوع من المعارك التي خاضها المسلمون ضد المشركين، وأنه تكرر مرات، وعلى المنبر، مما يعني أن فهْم حسان غير فهْم عمر، فإذا كان الأول قد توسع في الرخصة، فإن الثاني أراد لها أن تُحصر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تنتهي بانتهاء مبرراتها مادامت قد ارتبطت بسياق معين. ولحظ عمر رضي الله عنه لحظ نهي، فهو إذاً دال على أن زمن الرخصة قد انتهى، وأن المسجد ينبغي أن يُنزه عن الشعر، أو على الأقل أن لا يكون الشعر حاضرا بذلك الشكل والحجم، ولكن حسان بن ثابت كان له رأي آخر، ومبرر آخر، وذلك موضوع القسم الثالث. وأما القسم الثالث ففيه مخالفة حسان لعمر، واستناده في ذلك إلى دليلين: فعلي وقولي: أما الدليل الفعلي فيظهر من قوله: +كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك؛، وفيه فوائد: الأولى أن إنشاده الشعر في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مستمرا، ولم يتوقف، فأمكننا بذلك أن نصحح لفظ “كان” في الحديث السابق لدلالته على الاستمرار في الإنشاد. والثانية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكون حاضرا في المسجد وقت الإنشاد، والإنشاد في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر أقوى دلالة من الإنشاد فيه وهو غائب. والثالثة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه؛ بل الذي رأيناه من قبل أنه كان يضع له منبرا ليُنْشِد عليه. والرابعة أن حسان بن ثابت توسع في الرخصة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لم يكن له أن يحاجج عمر بن الخطاب؛ إذ من اليسير أن يجيبه عمر بأن الإنشاد في المسجد كان مرتبطا بالرد على مَن هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الدليل القولي فيظهر من استشهاده بقول النبي صلى الله عليه وسلم له: ((أجب عني، اللهم أيده بروح القدس))، وشهادة أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمعه يقول ذلك له. وكلام النبي صلى الله عليه وسلم قد مر الوقوف على بعضه في الحديث السابق، وحسبنا هنا أن نشير إلى أنه من قسمين: أمر، ودعاء: أما الأمر فهو دعوة لحسان أن يجيب من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإجابة دالة على أن الآخر هو المعتدي، وأن قول حسان سيكون ردا، لا اعتداء. وأما الدعاء فهو طلب النبيِّ صلى الله عليه وسلم التأييدَ الإلهي لحسان بجبريل عليه السلام. ولما كان حسان بن ثابت يملك دليلين: قوليا وفعليا، فقد سكت عمر كما يُفهم من غياب أي تعليق له في روايات الحديث، وبناء على ذلك يكون حديث الباب من الأحاديث المرفقة بفهم أهل الاختصاص، وتنزيلهم إياها، وهذا الذي يجب العض عليه بالنواجذ في المسألة.
د. الحسين زروق
————
(1)- صحيح البخاري، 2/307، حديث رقم 3212، ك.بدء الخلق، ب.ذكر الملائكة صلوات الله عليهم.
(2)- صحيح البخاري، 1/122، حديث رقم 453، ك.الصلاة، ب.الشعر في المسجد.
(3)- صحيح مسلم، 16/38، حديث رقم ر2485/151، ك.فضائل الصحابة، ب.فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه.
(4)- لسان العرب، 7/457، مادة +لحظ؛.