خروق في سفينة المجتمع(39): الـــربـــا


مبدأ الإسلام في حماية سفينة المجتمع من الدواهي والأخطار، وعصمتها من العواصف والأوضار، يقوم على العلمية والواقعية والشمول، قيامَه على الأخلاقية والإنسانية، وهو بذلك الاعتبار يحفظ لها كيانها المادي وجوهرها الروحي على حد سواء. ومما يترجم ذلك في مضمار تنظيمه لمجال الاقتصاد، تحريمه للتعامل بالربا، باعتباره وباء إذا تسربت جرثومته إلى دواليبه وأجهزته، كانت كفيلة بإتلافها إتلافا شاملا لا يبقي ولا يذر، إتلافا يعصف بحركة الاقتصاد والتنمية، ويشل فيها منافذ الإنتاج والاستثمار، ويأتي على الروح فيطمس فيها معالم الطهر، ويسد فيها منابع الإحساس، ويذرها قاعا صفصفا، وهو بذلك ينسف مكارم الأخلاق نسفا، لأن هذه ما كانت لتينع أو تورق، فضلا عن أن تزهر وتثمر، في تربة قاحلة جرداء. إن الأصل الذي يرسخه الإسلام في علاقة أهل السفينة فيما بينهم هو التعاون والتكافل، والتراحم الذي يكونون معه كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، كما جاء في حديث الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والربا بمعوله الرهيب إذا حل بسفينة المجتمع أجهز عليها بما يزرع فيها من نزعة الجشع والشراهة القاتلة التي تحقن ضحاياها بشحنات القسوة التي تحجب عنهم أدنى إحساس أو معنى من معاني الآدمية التي تدعو إلى التشارك واقتسام الخيرات، على أساس العدل والإنصاف، وعلى أساس الرحمة والاعتراف. وإذا كان شيوع فاحشة الزنا كفيلا بتخريب المجتمع من باب انتهاك حرمة الأعراض وتلويث الأنساب الذي يجرده من هويته وكرامته بسبب سلبه نعمة الصفاء والنقاء والاعتزاز بالأصول، فإن شيوع الربا في تلك السفينة هو بمثابة السرطان الفتاك الذي يلتهم أقوات السفينة، ويلقي بأغلبية أهلها الساحقة إلى قبضة الفقر والعوز التي تهصرهم هصرا، ومخالب الجوع التي تنهشهم نهشا، بإشراف ماكر من عصابة قليلة من المرابين الذين يجدون سعادتهم ولذتهم في سماع أنين الجياع، ومشاهدة صور التضور والآلام، ولوحات البؤس الكالحة القاتمة التي رسموا خطوطها وحفروا تضاريسها بمخالبهم المغموسة في دماء المستضعفين البؤساء. إن التمكين لسرطان الربا في مجتمعات المسلمين يعتبر تناقضا صارخا مع مقتضيات الإسلام، وتنكرا لمطالب العدل الاجتماعي والأمن النفسي التي لا يجني الناس في غيابها غير التمزق والشقاء، والمذلة والاستخذاء. وإنه لمن الغريب أن ترضى لنفسها مجتمعات شرفها الله بالإسلام، أن تكون جزءا لا يتجزأ من طاحونة يحركها المرابون العالميون بالشكل الذي يمكنهم من الجثوم على كيان الإنسانية المسحوق، وسوقه بكل شراسة وقسوة إلى العدم والبوار، والحال أن المفروض في القائمين على أمر تلك المجتمعات، وعلى القوى الحية فيها، أن تحمل لواء التصدي لكل نظام غريب عن روح الإسلام وثقافته وشريعته وقيمه، وأن تلفظه كما يلفظ الجسم المنيع كل جرثومة تروم النفاذ إليه لخلخلته وإخراجه عن حالة الصحة والاستواء!! وإنه لمن الغريب أيضا أن تحرز مجتمعات تنتمي لدائرة الإسلام على استقلالها السياسي، وترضى أن تظل مع ذلك رهينة لما خلفه فيها الاستعمار من نظام ربوي مقيت. بل إن قمة الغرابة أن تسبق الدول الاستعمارية دولا إسلامية إلى إقامة مصارف وأبناك لا ربوية على ترابها وترحيبها بأن تكون إلى جوار الأبناك الربوية، لا لأنها أسلمت وجهها لله، بل لوعيها، من باب الدراسة والتجربة، بما تدره تلك المصارف والأبناك من أرباح، وبما تختزنه من فعالية كبرى في تنشيط دورة الاقتصاد والتنمية، وأن تظل الدول المسلمة في وضعية من التحجر، ترعى خنازير الغرب وتتعهدها بالرعاية والإطعام، على الرغم مما تورثها تلك الوضعية من جدب وإمحال، وفوق ذلك، من غضب العزيز المتعال، على الرغم من أنها مطالبة بموجب إسلامها بنبذ الربا وتطبيق النظام الإسلامي في الاقتصاد، تفاديا للدخول في حالة حرب مع العزيز المنتقم الجبار،الذي توعد المرابين بوعيده الرهيب الشديد بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}(البقرة :278- 279). وإنه من دواعي الاستغراب مرة أخرى أن يبصر القائمون على أمر المجتمعات الإسلامية الأزمات المالية والاقتصادية بأمهات أعينهم، وهي تأتي على الأخضر واليابس، وما خلفته وتخلفه من حطام وخراب، ومن ضحايا وأشلاء، لم يخطئهم نصيبهم منها، ثم يظلون على تقاعسهم عن القيام بأوبة صادقة، وبتوبة نصوح، يترجمونها من خلال حركة تطهيرية يكنسون في سياقها، ضمن ما يكنسون، ذلك النظام الربوي الجائر الذي أفسد الذمم وخرب الديار. لماذا إذن يتصامم أهل الشأن عندنا عن نداء الشرع ونداء الواقع المصدق للشرع؟! وحاشا أن يخالفه، ولماذا يتصاممون عن نتائج دراسات عقلاء الغرب وحكمائه؟! ولنستمع إلى الدكتور شاخت الألماني ـ وقد كان مدير بنك الرايخ الألماني سابقاـ في محاضرة له بدمشق عام 1953، وهو يقو%