ناقشنا في الحلقة الأولى (383) (من بين هذه الحلقات العشر) الشطر الأول فقط من هذا العنوان العام، وهو “لغة القرآن” وحاولنا ما أمكن توثيق العلاقة ما بين كلمة “لغة” وكلمة “قرآن” بما رأينا أنه يفيد في هذا المجال من ضوابط التقعيد، وطرحنا سؤالا بناء على هذه العلاقة ما بين كلمتي لغة وقرآن، هو : بماذا تتميز هذه اللغة بخصوص إضافتها إلى القرآن بالإضافة إلى كونها لغة كباقي اللغات الإنسانية يتواصل بها؟ ولماذا نزل القرآن الكريم باللغة العربية خصوصا؟. وقد حاولنا الوقوف على بعض معالم الإجابة عن هذا السؤال من خلال آيات من القرآن الكريم وهذه الآيات تنقسم إلى قسمين : أولهما يصف القرآن بأنه نزل بلسان عربي مبين في ثلاث آيات، ويقيد هذا اللسان بالبيان في آيتين منها. والمحور الثاني يصف القرآن بأنه عربي ومبين غير ذي عوج. ولقد فصلنا القول بعض التفصيل في المحور الأول. بخصوص الآيات الثالثة الواردة في الموضوع، ونحاول تلخيص ما أوردناه في سياق مناقشة كل منها مما يبدو أنه يلامس الإجابة إلى حد ما عن السؤال المطروح : “لماذا نزل القرآن باللغة العربية؟ وذلك كما يلي :
1- ناقشنا في الحلقة الثانية (المحجة 384) بعض مضامين الآية الأولى في هذا الموضوع، وهي قوله تعالى : {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر}(الآية). ولاحظنا بعد تصنيف مكوناتها أن الغلبة كانت للجملة الفعلية التي فعلها مضارع بوظيفته التي تفيد التجدد والحدوث، وهو مسند إلى فاعل خاص هو الله تعالى وهنا نلاحظ أن استعمال الفعل المضارع بهذه الصفة الدلالية مسندا إلى فاعل خاص لم يأت عبثا فالفعل بصفة عامة له وظيفة خاصة من بين مكونات الكلام الثلاثة الاسم والفعل والحرف. يقول ابن القطاع : “اعلم أن الأفعال أصول مباني أكثر الكلام، ولذلك سمتها العلماء الأبنية، وبعامها يستدل على أكثر علم القرآن والسنة والأسماء غير الجامدة والنعوت كلها منها مشتقات، وهي أقدم منها بالزمان، وإن كانت الأسماء أقدم بالترتيب في قول الكوفيين”(كتاب الأفعال 1/8). انطلاقا من هذا النص الذي أوردناه لابن القطاع يتضح أن البنية المعبر بها في الآية أكثر من غيرها هي الفعل “البنية الأصل”. ولذا يكون التعبير بالفرع الذي هو مشتق من المشتقات مستمد من الأصل، وهذا ما يتضح في اسم الفاعل “مبين” الوارد في هذه الآية “وهذا لسان عربي مبين” يقول ابن منظور : “يقال بأن الحق يبين بيانا فهو بائن، وأبان يُبين إبانة فهو “مبين” بمعناه..(ل ع 13/68). ومما يفيد قوة دلالة الكلمات التي صيغت منها الآية أن أصول أفعالها : المضارعة : يلحدون أبان، أعجم… مزيدة على وزن أفْعل مثل : ألْحد، وأعرب، وأبان، وأعجم.
2- وقد رأينا بالنسبة للآية الثانية وهي قوله تعالى : {وإنه لتنزيل رب العالمين…}(الآية). أنها تركز في مجملها على وصف اللسان العربي بالبيان لأجل أداء وظيفة الإنذار. بعد أن نزل من رب العالمين. وبهذا تتفق هذه الآية {وإنه لتنزيل…} مع التي قبلها “ولقد نعلم…” في تحديد الجهة التي صدر عنها هذا الخطاب في الآية الأولى بإسناد الفعل المضارع “نعلم” إلى فاعل خاص هو الله تعالى. وفي الثانية بالإخبار بالمصدر “تنزيل” بأنه من رب العالمين. ولقد مر بنا أن هذه الآية مُصدّرة بالمصدر”تنزيل”. والتعبير بالمصدر أوسع من التعبير بالفعل، لأن زمان الفعل مقيد، وزمان المصدر مطلق وليس هذا هو الذي يميز دلالة هذه الكلمة “المصدر” فحسب بل ثمة سمات أخرى تميزها وتقوي دلالتها منها أن الأصل الذي اشتقت منه هو فعل “نزَّل” على وزن “فعَّل” بتشديد العين، ولهذه البنية وظائفها الدلالية التي تفيد التكثير: القوة بل تفيد المبالغة في بعض السياقات. ونقف في العدد 386 عند الاسم المركب في هذه الآية وهو “رب العالمين” المركب تركيب إضافة، وقد مر بنا أنه يدل على حقيقة واحدة هي أن الحق سبحانه مربي لكل من يحتاج إلى هذه العناية من العالمين، وكان هذا الاسم قبل تركيبه يدل على حقيقتين أولاهما “رب”، وثانيها”العالمين”، ولكل اسم بمفرده من بين هذين الاسمين دلالته المتميزة الخاصة، فقد رأينا أن معاني مادة “ر”ب”ب” تتجاوز العشرة وكلها إيجابية تدل على ما ينفع ولا يضر. هذا بالنسبة للاسم المضاف “رب”. أما المضاف إليه وهو “العالمين” فاصله “علم”، الثلاثية شكل العين (أي الوسط الذي هو حرف اللام) ولكل شكل وظيفته الدلالية. والاسم المشتق من هذا الأصل “علم” المتعدد الوظائف الدلالية هو “عالَم” ولا واحد له من لفظه. والجمع عالمون ولا يجمع شيء على فاعل بالواو والنون إلا هذا. والعالمون أصناف الخلق، والعالم، الخلق كله. وعليه فمعنى “رب العالمين، رب الخلق كلهم، وهذا التنزيل تَمَّّ بوسيلة خاصة هي: “الروح الأمين”، ومكان وضع هذه الأمانة هي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل به الروح الأمين على قلبك”. وعليه نلاحظ أن معاني السمو واللطف متظافرة في هذه الآية لتفيد أن الحدث غير عادي شكلا ومضمونا. فالمسند إليه بعد فعل نزل هو الروح الأمين، والأمانة المحمولة لأجل إنزالها هي معاني القرآن الكريم بما تتضمنه من أحكام وتشريعات وتوجيهات، والمكان المحدد لوضعها. هو قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهة التي صدرت عنها هذه الأمانة جهة عليا كما أفاده التعبير عنها بالمصدر “تنزيل” المضاف إلى “رب”. والغاية التي من أجلها أنزلت هذه الرسالة هي الإصلاح، والوسيلة هي اللسان العربي المبين.
3- الآية الثالثة : هي قوله تعالى {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة…}(الآية)، رأينا في العدد 388 أن دلالة هذه الآية في مجملها تشير إلى وحدة المسؤولية بين الرسل صلوات الله عليهم. ولذا صُدِّرت بقوله تعالى {ومن قبله كتاب موسى}(الآية)، ووصف القرآن الكريم في سياق مقارنته بكتاب موسى عليه السلام الذي كان قبله بثلاثة أوصاف هي : “مصدق”، “لسانا”، “عربيا”. وفي سياق هذه المقارنة بين الكتابين اتضح لنا في العدد 389 أن كتاب موسى عليه السلام خاص بأهل زمانه، في حين أن القرآن الكريم لا يزال ساري المفعول ذلك أن الرسالتين متساويتان في التسمية “كتاب” لكن الأولى أي كتاب موسى مقيدة بالإضافة، ويستفاد من هذا التقييد اللغوي بالإضافة أن رسالة موسى عليه السلام خاصة بأهل زمانه. في حين أن الرسالة الثانية التي هي القرآن الكريم المشار إليه بقوله تعالى : {وهذا كتاب} مطلقة بدليل تنكيرها، وعليه يستفاد من هذا الإطلاق اللغوي الذي يفيده التنكير أن مضمونها عام ولا يزال ساري المفعول فهو عام لتنكيره، ولا يزال لأن العبارة لا تتضمن تقيده بزمن معين. وهذا الكتاب الموسوم بهذه الدلالة العامة أضيفت إليه صفة التصديق في العدد 392. وكان ذلك بصيغة اسم الفاعل مصدِّق، وقد لا حظنا في العدد أعلاه أن دلالة هذه البنية “مصدق” مركبة، فالأصل فعل صدق من باب نصر، وقد جاء متعديا تارة ولازما أخرى، ومن مزيده “صدَّق” بالتضعيف صيغ اسم الفاعل مصدق، واسم الفاعل يدل على حدث وصاحبه وعليه فدلالة هذه الكلمة “مصدق” ثنائية، بحيث تعني الحدث الذي هو الصدق، والمنسوب إليه وهو الكتاب الموسوم بهذه الصفة، وهي صفة مميزة لأي متصف بها لقوتها ونبلها، وتعرب مصدق في هذا السياق نعت، ولذا فهي تفيد ا لتخصيص لأن المنعوت “كتاب” نكرة كما أوضحناه في العدد 393. بعد أن استعرضنا وظائف النعت الدلالية، وقد وضحنا في نفس العدد دلالة “لسان” الذي صيغ على وزن فِعال، ومثلنا لهذه البنية بمجموعة من الكلمات التي صنفناها إلى ثلاثة أقسام منها المصادر، وجموع التكسير ثم الأسماء، واتضح أن دلالة كل منها في مجالها دلالة قوية مثل قتال وشقاق وظلال وحسان وسباب…الخ. وقد ناقشنا في الحلقة الموالية عدد 404 دلالتي الحال والتوكيد، أو النعت بناء على إعراب ابن منظور لهذه الآية {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} إعرابا لم نسلم به، ونظرا لما يستلزمه البيان من طول الكلام لأجل توضيح وجهة نظرنا المتواضعة في رأي ابن منظور. فقد قسمنا هذه الحلقة إلى أربع حلقات فرعية بنفس العنوان نوردها مجملة ثم نقتطف من كل منها ما يتناسب مع المقام وهي : الأولى (عدد 404) عرض لمكونات الجملة (الآية ) المتظافرة على نسجها. الثانية(عدد 410) عرض موجز للقواعد المؤثرة في معنى الآية. الثالثة (عدد 412) علاقة الحال والتوكيد بالموضوع. الرابعة(عدد 414) (وهي هذه) خلاصة وتعليق. أوردنا في الحلقة الأولى إعراب ابن منظور لكلمتي “لسانا” و”عربيا” في الآية حيث أعرب الأولى توكيدا، والثانية حالا. وبنى على ذلك معنى تأول في استخراجه، وقد بسطنا تعريف قاعدة الحال لأجل مقارنة أجزائها بما جاء عند ابن منظور، ولخصنا بعض مكونات الكلمات التي تتألف منها الجملة (الآية). وبنينا على ذلك أنواع الحال في الحلقة الفرعية الثانية (عدد 410) واستخرجنا من ذلك نوعي وظيفة الحال الدلالية، وحاولنا أن نطابق بين أقسام الحال، ووظيفتيه مع ما جاء به ابن منظور. ثم اتضحت لنا من ذلك معالم الخلل. وقد استخرجنا من النص الذي أوردناه لابن منظور في هذا السياق ثلاثة عناصر من الحلقة الثالثة(عدد 412) هي قوله : – وعربيا منصوب على الحال بمعنى مصدق عربيا. – وذكر لسانا توكيد كما تقول : جاءني زيد رجلا صالحا. – وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا أي مصدق للتوراة. وقد ناقشنا كل عبارة من هذه العبارات على حدة مع تأكيد وجهة نظرنا بما نراه مناسبا من القواعد، واتضح أنها كلها لا تسلم من رؤية نقدية مقومة لها. والله أعلم.
د. الحسين گنوان
-يتبع-