315 السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي بين الثوابت والمتغيرات
بداية يمكن القول إن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية لا تنفصل عن سياسة الدول الغربية عموما إلا من حيث التفوق العسكري وتفاوت موازين القوى والمصالح بين هذه الدول وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالريادة والتفوق على حلفائها، وإلا فالقاسم المشترك بين السياسات الغربية عموما هو تغليب مصالحها على حساب مصالح الدول الضعيفة. ولذلك فطبيعي أن تكون فترة تحكم الولايات المتحدة واستفرادها بالقرار الدولي مرحلة صعبة أضافت إلى العالم الإسلامي جملة مشاكل وتحديات.
ولقد تحركت الولايات المتحدة في سياساتها الدولية وفق استراتيجيات ومبادئ محددة تحكمها المصالح القومية ( أمنية وعسكرية واقتصادية وثقافية ودينية..)، ومنذ أن برزت هذه الدولة كقوة دولية وهي تراهن على الهيمنة على العالم الإسلامي مستغلة كل فرصة للتدخل، فعلى سبيل المثال استغلت هذه الدولة ولا تزال الحرب الباردة مع المعسكر الاشتراكي الاتحاد السوفييتي في الأمس وروسيا والصين اليوم، كما استغلت أحداث 11/09/2001م لشن حربها على العالم الإسلامي واحتلال بلدانه والاستحواذ على مصادره وفرض التغيير الثقافي والسياسي على المقاس الأمريكي، واتسمت مرحلة الرئيس السابق جورج بوش الابن بأنها أسوأ مرحلة مرت بها علاقات و.م.أ بالعالم الإسلامي ، ومع بداية حملات الانتخابات الأمريكية الأخيرة في نهاية العام 2008 بدأت تعلو شعارات الديمقراطيين بتغيير السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي، وأعلن ذلك باراك أوباما غير مرة في حملته الانتخابية وفي جولته سابقا إلى أفغانستان والعراق في 2006م وفي حفل تنصيبه حيث أكد في كلمات مقتضبة أن السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي ستنبني “على طريقة جديدة للسير قدما قائمة على المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل”(من خطابه لحظة تنصيبه)، وبعد توليه منصب الرئاسة سارع إلى إعلان مجموعة من التدابير السياسية لتوكيد هذا المسعى. فهل سينجح الرئيس أوباما في تغيير الثوابت الأمريكية ؟ وهل سينجح في مواجهة اللوبي السياسي والاقتصادي والمخابراتي المتحكم في توجيه السياسة الأمريكية؟ وإلى أي حد يستطيع أوباما التصالح مع العالم الإسلامي وطي صفحة الماضي الأليم؟
أولا – ثوابت السياسة الأمريكية :
1- الحفاظ على قوة و.م.أ: يشكل هذا الهدف أهم الخطوط التي لا يمكن تجاوزها فأي سياسة في أي بلد ينبغي أن تنبني على مراعاة الحفاظ على قوة الدولة ومصالحها الاستراتيجية والحيوية في الداخل والخارج في جميع المستويات، ودرء كل تهديد لهذه المصالح لذلك فإن السياسة الأمريكية لا يمكن أن تخرج عن هذه القاعدة السياسية بل إنها توسعت في هذه النقطة وجعلت تهديد مصالح الحلفاء والأصدقاء (الأنظمة التي نصبتها الولايات المتحدة أو ترضى عنها) تهديدا لمصالحها ولقوتها، وهذا الأمر هو الذي كان مسوغا للتدخل في كل السياسات الدولية التي لا تتوافق مع توجهها ويمكن أن تشكل تهديدا إيديولوجيا وعسكريا أو منافسا اقتصاديا لها أو لحلفائها والأصدقائها. وفي هذا السياق يتضح إلى أي حد يمكن أن تتغير السياسة الأمريكية في ظل رئاسة أوباما وحزبه الديمقراطي ، وما هو هامش المناورة في التغيير الذي يمكن أن يلعبه الرئيس ،بل يمكن التساؤل عن طبيعة القرار الذي يمكن أن يتخذه الرئيس في حال تعرض مصالح دولته للتهديد؟ وهل سيميل إلى التساهل أم سيختار نفس الخطة التي سلكها سلفه بوش؟
2- تأمين مصادر الطاقة والمواد الأولية الأساسية والسوق الاستهلاكية وضمان تدفق النفط، والسيطرة على ممراته الاستراتيجية، إذ يحتاج الاقتصاد الأمريكي إلى أكثر نسبة من الطاقة (البترول والغاز الطبيعي) لذلك فإن التفريط في العالم الإسلامي يمكن أن يعرض الاقتصاد الأمريكي للانهيار المباشر وهذا ما يفسر الحروب التي شنتها و.م.أ على مصادر الطاقة في العالم الإسلامي وذلك في سبيل تأمين هذه المصادر، وقطع الطرق على المنافسين الدوليين .
3- مساندة الكيان الصهيوني و المحافظة على أمن إسرائيل وتفوقها العسكري على الدول العربية والإسلامية مجتمعة والاستمرار في الدعم المطلق وغير المشروط لإسرائيل ، وقد ظهر أخيرا عدد من التصريحات الأمريكية في عهد الإدارة الجديدة تؤكد الموقف الأمريكي المساند للكيان الصهيوني والانحياز السافر له وللسلطة الفلسطينية التي تحظى بتأييد صهيوني وأمريكي، في مقابل هذا ظهرت مواقف و.م.أ صلبة من حماس واتجاهات المقاومة ولازالت تكرر نفس لهجة الرفض والإدانة للمقاومة والتي دأبت عليها السياسة الأمريكية منذ قيام الكيان الصهيوني.
4- منع انتشار الأسلحة النووية) وعدم السماح بقيام دولة إسلامية حقيقية في أي مكان ومنع الدول الإسلامية من امتلاك القدرات النووية والأسرار العلمية مهما كلف ذلك من ثمن ولعل السياسة الأمريكية الجديدة في عهد الديمقراطيين لن تحيد عن هذا الخط ولن تسمح للدول الإسلامية بتحقيق هذا الطموح وستلجأ إلى المفاوضات الدبلوماسية والإغراء بالمساعدات ، ويلاحظ في هذا السياق أنها ستستمر في دعم دول غير إسلامية ومعادية في امتلاك وسائل القوة النووية كالكيان الصهيوني والهند.
ثــانيا – دواعي رفع شعار التغيير في السياسة الأمريكية :
1- صعوبة تحقيق الانتصار في الحرب على الإرهاب إذ بينت تجربة الحرب في العراق وأفغانستان صعوبة حسم الحرب لصالح أي طرف وأصبحت هذه الحرب استنزافية ولم يعد بمقدور أي طرف ادعاء الانتصار، وأمام هذا الوضع لم يعد أحد قادرا على التكهن بوقت انتهاء الحرب هذا إذا أضفنا ارتفاع تكاليف هذه الحرب والعجز عن زيادة الإنفاق العسكري على هذه الحرب في العراق وأفغانستان وفي غيرهما إذ “إن إبقاء جندي واحد أو مرتزق واحد في العراق وأفغانستان وباستثناء معداته يكلف نصف مليون دولار في العام”(وليم بولك : التحديات التي تواجه الرئيس أوباما، مجلة المستقبل العربي عدد 358 ديسمبر 2008 )فكم يمكن أن تبلغ تكاليف الحرب بمعداتها أمام ارتفاع عدد الجنود الأمريكيين وجنود الحلف الدولي؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة والدول الغربية زيادة إنفاقاتها العسكرية أمام الأزمة المالية الحالية؟
2- صعوبة تجاوز الأزمة المالية في أقل من عامين على الأقل وبدون إشراك دول عالمية كدول العالم الإسلامي وخاصة الدول النفطية، هذه الأزمة فرضت على و.م.أ.اللجوء إلى الاقتراض من الدول للتخلص من العجز وسد الخصاص ومعالجة مشكلة التضخم و”قد ارتفع الدين الوطني قبل الأزمة 10.6 تريليونات دولار واقترضت وزارة الخزانة من الخارج حوالي 3 تريليونات دولار ، واقترضت الحكومة عام 2008 ضعف ما اقترته في عام 2007 أي 550مليارا إلى نحو ترليون” ” (وليم بولك : مرجع سابق).
3- ظهور منافسين دوليين جدد كالصين وروسيا والاتحاد الأوروبي مما يجعل موقع و.م.أ أمام منافسة حقيقية وتهديد واقعي لمصالحها الاقتصادية يمكن بسببها أن تفقد توازانات وتخسر أصدقاء مما يمكن أن يجعلها متجاوزة في الأمد القريب إذا لم تأخذ هذه التحديات بمأخذ الجد، ولذلك وحفاظا على المكانة الدولية يمكن أن تلجأ إلى سياسة الحوار والإقناع والإغراء ما أمكن الأمر خوفا من عروض مغرية من قبل المنافسين الدوليين الجدد خاصة إذا علمنا الموقع الاستراتيجي للعالم الإسلامي مع الخصوم و.م.أ خاصة الصين وروسيا. وأهمية العالم الإسلامي في الخريطة الدولية أهمية متعددة الجوانب سياسيا واقتصاديا وجغرافيا وديموغرافيا أيضا، لذا يمكن أن تكون التلميحات لتغيير السياسة الأمريكية فيها هذا التلويح للمنافسين والسباق قبل فوات الأوان مما قد يعني أن التغيير يضع نصب عينيه المصالح الأمريكية قبل المصالح الإسلامية وأنها تنازلات جاءت تحت ظروف الإكراه لا عن قناعات ذاتية!!
4- يعتبر العالم الإسلامي المنطقة الثقافية الحاملة لفكر تصنفه و.م.أ والصهيونية العالمية المتحكمة في الدول الكبرى ضمن الفكر المعادي والمهدد للغرب(إسلامو فوبيا) مما يفرض توجيه الاهتمام لهذه المناطق بشتى الأساليب لتغيير هذه الثقافة وتجفيف منابعها مرة بالقوة و مرة بالدبلوماسية. ومما زاد الغرب تخويفا هو تنامي الحركات الإسلامية ذات البعد الجماهيري والمشاريع الإصلاحية الحقيقية، هذا النمو رافقه وعي حقيقي لدى الجماهير المسلمة بضرورة قيام إصلاحات جذرية في البلدان الإسلامية ووعي بضرورة الحوار مع الغرب على أساس احترام المصالح العليا للأمة الإسلامية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا وفي مقدمة المشاكل التي تعوق التواصل مع الغرب وو.م.أ هو القضية الفلسطينية وهضم حقوق الشعب الفلسطيني والانحياز السافر للكيان الصهيوني الغاصب ، وقضية التنمية البشرية الحقيقية، وقضية الإصلاحات السياسية والتعليمية والاجتماعية انطلاقا من مراعاة الخصوصية الذاتية للأمم المسلمة. وأمام التغاضي عن الحقوق العربية والإسلامية تزداد روح العداء والكراهية للغرب عموما وللولايات المتحدة الأمريكية وأصبحت صورتها أكثر تشويها في العالم باعتبارها زعيمة الإرهاب الدولي.وللخروج من هذا المأزق بات على السياسة الأمريكية إحداث بعض التغييرات في أسلوب إدارتها للقضايا والمشاكل في منطقة العالم الإسلامي والعربي.
ثــــالثا – مدى مصداقية التغيير فــــي استراتيجيات و.م.أ :
1- الاستمرار في تعيين كبار الحلفاء في السياسة الأمريكية للكيان الإسرائيلي وعلى رأسهم هيلاري كلنتون في منصب وزارة الخارجية وهي الحليف الرئيس للكيان الصهيوني في الحزب الديمقراطي ،كما أن إبقاء أوباما على روبرت جيتس وزيراً للدفاع في الإدارة الجديدة فيه دلالة قوية على المحافظة على ثوابت السياسة الأمريكية الخارجية خلال السنوات الأربع المقبلة. فأي تغيير سيحمله عهد أوباما مع العلم أن روبرت غيتس هذا هو الذي عينه جورج بوش الابن على رأس وزارة الدفاع ليكمل مهمة غزو العراق وأفغانستان والضغط على باكستان؟
2- الاستمرار في تأييد الكيان الصهيوني في حربه على الشعب الفلسطيني والاستمرار في اتهام المقاومة بالإرهاب ورفض الحوار معها إلا بعد القبول بالشروط الإسرائيلية ، فهل هذا يعتبر مؤشرا على تغيير السياسة الأمريكية أم على استمرارها؟ وهل سيتمكن الرئيس أوباما من إقناع اللوبي الصهيوني واليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية الجديدة؟
3- الاستمرار في فرض إصلاحات سياسية وفق الشروط الأمريكية ، وكذا الاستمرار في العولمة ونهج التغيير الثقافي في بلدان العالم الإسلامي ولو كان ذلك على حساب الثقافة الإسلامية والخصوصيات الذاتية للأمم والشعوب الإسلامية تحت ذريعة محاربة الإرهاب ومصادره، وفي نفس الوقت الذي تنادي في الولايات المتحدة الأمريكية بنشر قيم العالم الحر (الديمقراطية والعدالة والتنمية البشرية )فإنها لا يمكن أن تتخلى عن سياستها المزدوجة المعايير
4- الاستمرار في سياسة عسكرة العالم ونشر مزيد من القواعد العسكرية الأمريكية لتطويق العالم الإسلامي من جميع الجهات وتغليب النهج الأمني والخيار المخابراتي باعتبارهما خيارا استراتيجيا لا يمكن لإدارة أوباما تغييره ولو مرحليا خاصة في ظل تصاعد قوة روسيا والصين من جهة وبقاء كثير من مناطق العالم الإسلامي غير قابل إلى حد الآن للدخول في مشاريع التسوية والمصالحة لغياب الثقة في الطرف الأمريكي ولضعف المصداقية في الدعاوي الأمريكية كما أثبته تاريخ التدافع السلمي والحربي مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، كما أن قرار الإدارة الأمريكية بتقليص عدد جنودها في العراق لن يتبعه نفس التدبير في أفغانستان وباكستان بل إن السياسة الأمريكية في هذه الجهة ستزاوج بين لغة المفاوضات بشروط سالفة وبين الزيادة في عدد الجنود ولعل الذي تغير في هذه السياسة هو تفطن و.م.أ لضرورة إشراك حلفائها في صياغة سياسة مشتركة وتشاورية مبنية على التعاون واحترام مصالح الشركاء التي قامت الإدارة السابقة على تجاوزها والانفراد بالقرار الأحادي الجانب.
وعلى العموم فإن مبادرة إعلان التغييرات السياسية في التعامل مع العالم الإسلامي من اعتماد القوة والاتهام المسبق إلى اعتماد سياسة الاحترام المبادل مبادرة طيبة يعتبر العالم المعاصر والمجتمع الإنساني في أمس الحاجة إليها لتوفير الأمن والكرامة للجميع إلا أنها مبادرة لا تزال تعترضها مجموعة من العوائق الموضوعية وثقل الإرث التاريخي من الجراح وغياب صدق النوايا من الجانب الغربي ، كما أنها لا يمكن أن تكون وليدة إكراهات مرحلية الغرض منها خفض التوتر إلى حين تجاوز الأزمات (المستنقع العراقي والأفغاني والملف النووي الإيراني والأزمة المالية والتمكين للكيان الصهيوني ..) ، كما أنها مبادرات يمكن أن تظل مجرد شعارات ما لم تفعل من الجانب العربي والإسلامي والجانب الأمريكي وتحتاج إلى دعم دولي صادق يتمكن فيه المجتمع الدولي عموما والأمريكي خصوصا من التخلص من الهيمنة الصهيونية ذات التأثير المباشر في القرارات الدولية الحاسمة. لذلك فإن تغيير سياسة و.م.أ تجاه العالم الإسلامي لا تحتاج إلى ولاية رئاسية واحدة ولا إلى مرحلة زمنية قصيرة بل يجب أن تصبح ثابتا من ثوابت النظام الدولي المعاصر ولا يصير الأمر كذلك إلا إذا أصبح المسلمون فاعلين ووازنين، ولن تصبح للمسلمين قوة التأثير وفرض الاحترام على الآخر إلا في إطار وحدة إسلامية صادقة وفي ظل إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية سديدة ورشيدة.