تميزت أصول المذهب المالكي بمجموعة من الخصائص والمميزات، جعلت من المذهب المالكي مذهبا واسع الدليل، مجاريا تقلبات الأحوال والأزمان، مستوعبا قضايا الواقع، ومراعيا مقاصد الشرع المتعلقة بالمشرع من جهة وبالمكلفين من جهة ثانية. وتتجلى هذه الخصائص من خلال النظر في قواعد الاستدلال في المذهب المالكي في مختلف أبعادها الموضوعية. ومن أهم الخصائص التي ميزت أصول المذهب المالكي عن غيرها من أصول مذاهب الأئمة المعتبرين يمكن ذكر ما يلي:
أولا كثرة أصول المدرسة المالكية : من أهم الخصائص التي تسترْعي انتباه نظر الناظر، أن المذهب المالكي من أكثر المذاهب المتبعة أصولا وأوفرها أدلة، سواء في ذلك الأدلة النقلية، أو الاجتهادية العقلية، فقد تمسك المالكية بأصول لم يقل بها غيرهم، وقرروا أصولا نفاها آخرون تأصيلا، وعملوا بها تفريعا. وفي هذا السياق يقول أبو زهرة:” فإنه أكثر المذاهب أصولا، حتى إن علماء من المذهب المالكي يحاولون الدفاع عن هذه الكثرة، ويدعون على المذاهب الأخرى أنها تأخذ بمثل ما يأخذ به من أصول عددا، ولكن لا تسميها بأسمائها”(1) ، ولا يخفى ما للكثرة من الفوائد الكبيرة، فكثرة الأصول كفيلة باستيعاب قضايا الإنسان على اختلاف الزمان والمكان والموضوع، وهي الكفيلة بضبط مجال الخلاف داخل المذهب، بما ينسجم والتيسير على الأمة، فالكثرة حسنة من حسنات المذهب المالكي. ثم إن الناظر إلى هذه الكثرة من أصول الاستدلال في المذهب المالكي، يرى أن لها أثرا في تفريع الفقه والتخريج على أصوله، ذلك أن تنوع أصول الاجتهاد واختلاف أدلة الاستنباط يجعل المجتهد في فتواه أقرب إلى الصلاح وأدنى إلى تحقيق العدل، وهو معنى عبارة أبي زهرة:” فكانت كثرة الأدلة من شانها أن تجعل المذهب المالكي مرنا في التطبيق فلا تضيقه”(2).
ثانيا انفراد المالكية ببعض الأصول : وترجع كثرة أصول المالكية، إلى أن مذهب مالك تفرد بأصول تفردا كاملا، لم يشاركه فيها غيره من المذاهب؛ وأهم الأصول التي عُدت من مميزات المذهب المالكي، عمل أهل المدينة، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، ومراعاة الخلاف. أما عمل أهل المدينة فهو من أهم الأصول النقلية التي تفرد بها المالكية دون سائر فقهاء الأمصار، حيث رأى مالك أن العمل إذا كان ظاهرا بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة يجب الأخذ به، ولا يسع أحد مخالفته إلى غيره. وقد بلغ مالك في اعتبار العمل إلى أن رد به خبر الآحاد عند التعارض، لأن العمل عنده من قبيل النقل المتواتر، قال مالكرضي الله عنه : “العمل أثبت من الأحاديث”(3). أما باقي الأدلة فقد اختلف في تفرد المالكية بها، ونشير هنا إلى أن غالب تلك الأدلة مما لم يتفرد بها المالكية، بل شاركهم فيها بعض المذاهب، إلا أن مذهب مالك كان له مزيد عناية بهذه الأصول، بكثرة الاستناد إليها في التفريع، فكانت المالكية أجسر المذاهب في الإفصاح عن هذه الأصول والبوح بها والاحتجاج لها، حتى عدت من مفردات المذهب المالكي التي تميز بها.
ثالثا ارتباط أصول مالك بأصول أهل المدينة : تميز منهج مالك رضي الله عنه باتباعه من سبقه من أهل العلم، والسير على وفق ما ساروا عليه، فأهل القدوة عند مالك هم علماء المدينة النبوية، التي كانت مهاجَر النبي صلى الله عليه وسلم، وبها حط التنزيل، واستقرت الأحكام، وكان فيها خير الأمة وصفوتها، ثم خلفهم التابعون من خير القرون الفاضلة، وكانوا على سبيل من سبقهم سائرين، وبسننهم متمسكين، ولم تكن هذه الخصيصة لغير مدينة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. فمنهج مالك منهج بيئته، قائم على الاتباع المؤسس على الدليل القوي، والبرهان الجلي، فمالك وارث علم المدينة، ومن تأمل الفقه المدني المأثور قبل مالك، وقارنه بفقه مالك، وجد الفقهين ينهلان من منهل مشترك، مما يفيد أن مالك ما هو إلا استمرار لمذهب أهل المدينة من الصحابة والتابعين، مع توسع في التفريع، ووضوح في منهج الاستدلال ودلائل الاحتجاج، على حسب ما اقتضاه الواقع، يقول أبو عبد الله المايرقي المالكي: “ومالك إنما جرى على سنن من كان قبله، وكان كثير الاتباع لهم، إلا أنه زاد المذهب بيانا وبسطا، وحجة وشرحا، وألف كتابه الموطأ، وأما ما أخذ عنه من الأسمعة والفتاوى، فنسب المذهب إليه لكثرة بسطه وكلامه فيه…”(4)
فمذهب مالك كما يقول أستاذنا الدكتور محمد الروكي:”ليس مذهب رجل واحد، ولا من تأسيس فكر واحد، ولا من إبداع عقل واحد، ولكنه مذهب بلد بأكمله، وحصيلة أجيال، وإرث حلقات تعاقبت عليها الأئمة الأثبات الراسخون من الصحابة والتابعين وتابعيهم بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم”(5) ولا يخفى ما لعامل التوارث من أهمية بالغة في قوة المذهب ومناسبة أصوله، لأنه ابن بيئة بدا صلاحُ فكرها في بستان الوحي، وتربى جيلها في مدرسة النبوة، ومالك رضي الله عنه منحدر من هذه البيئة، فجدير بمنهجه في الاستدلال أن يكون على أثر منهج الصحابة والتابعين.
رابعا الجمع بين أصول أهل الحديث وأصول أهل الرأي : ومن أبرز الخصائص التي ميزت أصول المذهب المالكي عن غيرها من الأصول، أنها جمعت بين أصول مدرسة أهل الأثر، وأصول مدرسة أهل الرأي، ومنزلة الأثر عند مالك بالمحل الأعلى، كما يظهر من خلال الموطأ، وأما الرأي فقد ضرب فيه بحظ وافر، وأصوله شاهدة على ذلك، فإنه رضي الله عنه لم يكتف في الرأي بالقياس، بل تجاوزه ليشمل العمل بالاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وإن الناظر إلى ذلك ليكاد يصنف مالكا في سلك مجتهدي أهل الرأي، كما صنع ابن قتيبة في كتابه “المعارف”(6). وتتجلى أهمية المزاوجة بين منهج أهل الرأي ومنهج أهل الحديث في الاستدلال للمذهب المالكي، في كون هذا المنهج أقوى في الإقناع، وأضبط لمجال الخلاف في المذهب، وأقدر على إلحاق المجهول بالمعلوم عند المساواة في العلة، وهو ما يساعد على استيعاب القضايا المستجدة في مجال العلاقات الإنسانية بمفهومها الواسع.
خامسا مركزية المصلحة في أصوله الاجتهادية : ومن الأصول الاجتهادية البارزة في المذهب المالكي المصلحة إعمال القياس والمصالح المرسلة والاستحسان وغيرها من الأصول الاجتهادية، وهي كلها حائمة حول المصلحة، وصادرة في منطقها عنها، يقول القاضي عياض في سياق ترجيحه لمذهب مالك على باقي المذاهب: “الاعتبار الثالث يحتاج إلى تأمل شديد، وقلب سليم من التعصب سديد؛ وهو الالتفات إلى قواعد الشريعة ومجامعها، وفهم الحكمة المقصودة بها من شارعها…”7 ويقول الإمام الذهبي : ” ولو لم يكن له ـ أي لمالك ـ إلا حسم مادة الحيل، ومراعاة المقاصد، لكفاه “8
ومن هنا يتبين أن المذهب المالكي اتسم بمرونة أصوله وطابعه المقاصدي الكفيل باستيعاب قضايا الناس ومراعاة مصالحهم بما يحقق لهم الأمن الديني والسلامة الروحية، وهذا ما جعل من المدرسة المالكية في الفقه، مدرسة متينة البنيان، مشاركة في الإبداع العلمي في العلوم الشرعية ومسايرة لأقضية الناس واحتياجاتهم بحسب كل عصر وظرف.
صهيب مصباح
———-
1- مالك حياته وعصره آراؤه وفقهه، لأبي زهرة ص383
2- نفسه ص 883
3- المدخل لابن الحاج الفاسي المالكي 1/128 دار التراث.
4- تبيين كذب المفتري فيما نسب لأبي الحسن الأشعري لابن عساكر. ص118 دار الكتاب العربي.
5- المغرب مالكي…. لماذا؟ د. محمد الروكي ص46 ، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية 2003
6- المعارف لابن قتيبة ص494. ذخائر العرب.
7- ترتيب المدار للقاضي عياض 1/96 مكتبة الحياة.
8- سير أعلام النبلاء للذهبي 8/96 مؤسسة الرسالة.