من المعلوم أن لكل سفينة تتخذ لها وجهة معينة خريطة إبحار، وميثاق عمل يرتضيه أهل السفينة، يكون لهم بمثابة القانون الضابط الذي يراعي مصالح كل فرد فرد، والمصالح العليا للسفينة على حد سواء، في إطار من العدالة والتوازن، ومن ثم فهو يأخذ بعين الاعتبار تجنب أي تصادم يمكن أن ينجم بين تلك المصالح، فيؤدي ذلك إلى وقوع اختلال للنظام ، تتأثر به المصالح كلها، فينفرط عقد السفينة ومن عليها. وكذلك الشأن في سفينة المجتمع، التي يكتسي كل ما يحدث فيها من تحركات وأعمال، ومن تقلبات وأحوال، حساسية ترهن مآلها. ومما لاشك فيه أن لغة التواصل داخل سفينة المجتمع، وطبيعة قاموس الألفاظ والعبارات المتداولة، تعد من ضمن شروط التفاهم وتوحيد الرؤية الفكرية والثقافية بين الأفراد، وتعد -من ثمة- صمام أمان ضد أي تسيب أو انفلات لغوي، يتجه لا محالة عند تفاقمه نحو بلقنة المجتمع، أي تحويله إلى قطع متنابذة متنافرة، وما ذلك إلا بسبب التلاعب بعملة اللغة، إما بتعويمها أو تزييفها. وإذا كان تعويم لسان التواصل أو لغة التواصل داخل المجتمع يعني التشويش عليه بتوظيف جملة من اللغات واللهجات، لامتصاص طاقته، وقطع الطريق عليه، للحيلولة بينه وبين أداء وظيفته في الربط والتوحيد بين أعضاء سفينة المجتمع، فإن عملية التزييف تستهدف إما إفراغ الألفاظ من حمولتها الحقيقية، أو تحريف وجهتها لتؤدي معاني مخالفة لمعانيها الأصلية. وتكتسي هذه العملية خطورة أكبر، عندما يتعلق الأمر بألفاظ محورية أساسية، تختزن لدى أهل السفينة أسرارا عميقة على مستوى الرؤية العقدية التي تقوم عليها المبادئ والأفكار، وهي ما يسمى بالمصطلحات، التي هي بمثابة مفاتيح العلم والفهم، ومن ثم مفاتيح التشكيل العقلي والبناء الحضاري.
وعندما تتجه القوى المضادة لمصلحة سفينة المجتمع رأسا إلى ترسانة المصطلحات، أو الجهاز المصطلحي المعتمد فيها، وتعمد إلى تزييفه، فإننا نكون أمام عملية جائرة وعدوان سافر يبغي بالسفينة خرقا، وبهويتها تشويها ومحقا. وأسوق هنا مثالين لهذه العملية التي هي بمثابة قرصنة ثقافية، تتولى كبرها شرذمة ممن يزعمون صفة المواطنة والانتماء لسفينة المجتمع: أما الأول فيتعلق بلفظ “الريع الديني”، ويعني به من يحاولون الترويج له في مجال السجال الفكري ما يعتبرونه عملية استثمار ممن يدينون بالولاء لدين الإسلام لذلك الدين نفسه في إطار العمل السياسي، لجني الأرباح المادية والمكتسبات السياسية من ورائه. وصفة الباطل والتحامل واضحة في هذه التسمية، فهي فضلا عن تعبيرها عن نزعة حاسدة مستحكمة في نفوس من قذفوا بها في الميدان من باب التهارش اللغوي والفكري، والمساهمة عن وعي في عملية التشويش المجاني على شروط نهضة مفترضة واعدة، تستشرفها سفينة المجتمع، من وراء حجب من الضباب والغيوم، تعبر عن خلفية مغلوطة للدين، تجد جذورها في التراث الماركسي المقبور، وفي مقولته الزائفة المعممة، بغير حق، على الدين بإطلاق، والحال أنها صيغت بوحي من الواقع الكنسي لدين لَـحِقَه التحريف. إن من يستعمل هذه المقولة الزائفة، ومن قام بسكها، بمقدورهم، لو توفر لهم الرشد الفكري، والموضوعية العلمية في تحليل المفاهيم، أن يكتشفوا زيغهم عن الصواب، لأن الأصل في من يتبنون الدين الحق أن ينتظروا “ريع الدين” الذي يؤمنون به، لا في هذه الدنيا الفانية التي هي دار اختبار وعبور، وإنما في الدار الآخرة التي هي دار الخلود والقرار. والعاملون للإسلام أهل هداية يرجون ثوابها عند الله جل جلاله، لا أهل جباية يتعجلون تحصيلها لتحقيق متاع رخيص.
وأما المثال الثاني فيتعلق بعبارة ” التحرش الديني” في وصف دردود كل الغيورين على هذا الدين ضد المتطاولين على ثوابته الشرعية كما هو رائج الآن في الصحف والمواقع الالكترونية خاصة الاجتراء على تشريعين من تشريعات الإسلام، يدخلان فيما هو معلوم من الدين بالضرورة: هما تشريع الإرث، وتعدد الزوجات، فهل هناك من ابتذال أكثر من هذا الابتذال في حق مصطلح هو من أقدس المصطلحات وأسماها؟ فهل يعتبر من يتولون إلجام وإلقام المتطاولين على مقام رب العزة بتغيير شرعه متحرشين بهم؟ إنه لقول كبار، أم أن المتحرشين، هم الذين يتطاولون على الدين، بسك مصطلحات باطلة ما أنزل الله بها من سلطان؟ إن من غرائب الأمور، ومما يجعل الحليم حيران، هذه الصفاقة التي مردت عليها طائفة ممن اختاروا أن يتخندقوا في خندق المعادين لدين الشعب الذي قضت في سبيله مواكب الشهداء، إنه لمن الخبال، أن يوجه هؤلاء الموتورون سهامهم وطعناتهم إلى مقدسات الأمة الدينية، وعندما ترد سهامهم في نحورهم، من قبل من يحسنون الرماية وينافحون عن الدين، تراهم يتنادون إلى العواء. وصدق الله العظيم القائل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الأعراف: 175- 176).
د. عبد المجيد بنمسعود