زوابع جديدة تثير سحب غبار متكاثفة ينجلي منها السحاب عن السحاب هو ملخص ما يحدث مرة أخرى في بلادنا من تطاول على الأحكام والنصوص القطعية لكتاب القرآن المجيد. وقد تم الاستعلان بهذا العصيان الصارخ لصراط الله عز وجل من خلال رفع مطالب تدعو جهارا إلى منع التعدد، وإرساء مفهوم المساواة في الإرث، وتم الالتفاف على هذا الانحراف، بإشهار الشعار التقليدي : “الحق في الاجتهاد” ومشروعية إخضاع شرع الله إلى إكراهات الزمان والمكان للقضاء على معضلة استشراء العنف ضد النساء، وإرساء قواعد مجتمع أكثر مساواة أي أكثر تقدما وانفتاحا .. والأمر أشبه برحى تطحن لمرات لا تحصى، دقيقا صار غبارا من فرط طحنه، إذ أن هذه العناوين المستهلكة في سجالات “ماراطونية” عمرت لعقود في ملف مناوشات العلمانيين للإسلاميين .. وتبين بالواضح أن الأمر لا يتعلق باستجلاء الحقائق كيفما كان الخندق الذي تخلقت فيه، وإنما هي فلسفة وعقيدة راسخة في أنفس الذين في قلوبهم غبش مستحكم، ومفادها أن الإسلام دين رجعية وتخلف وقهر للمرأة ، وأن قضية النساء لن تحل إشكالاتها إلا بضرب ركائز شرع الله، والسلام.
وهذه الراديكالية في التعامل مع الدين هي مؤشر لانسداد فكري وبرمجة مكثفة لعقول تم حشوها بالمفرقعات والمتفجرات الموجهة للمنظومة الإسلامية، الشيء الذي يجعل من محاولة فك العزلة والانغلاق عن هذه العقول ضربا من الحرث في المياه. والمنطق العلمي بصيغة أخرى يقتضي أن لا يحتفظ بنظرية إلا إذا سادت ولم تظهر عليها نظرية أخرى تزيحها من فوق عرشها وتمنح الناس قناعات جديدة أكثر إقناعا وإبهارا منها. وقد توالت النظريات والفلسفات والمنظومات على أرض التنزيل وما أفلحت أي منها في الصمود أمام دفق البحث البشري عن الحقائق الأخيرة التي من شأنها أن تبعث الراحة والسعادة والطمأنينة في الأنفس.. إذ رغم كل الاختراعات والابتكارات لا يزال حجم التعاسة والسخط يتسع بين الناس، ولا يزال الناس الأشقياء يزاحمون بعضهم البعض على بوابات الأطباء والمعالجين النفسانيين والسحرة والمشعوذين عبثا، حتى يأذن الله بدخولهم حصن الإسلام، آنها تتوقف معاناتهم وتقل شكاويهم وتتوازن حياتهم، بل إن الكثير منهم لذهولهم وانبهارهم بالدين الإسلامي يتنازلون عن حياة الدعة المعجونة بالألم ويعانقون حياة الدعوة المعجونة بالتقشف بكل سخاء وممنونية. وهم في عينات معتبرة بالعالم الغربي أهل فكر وعلم، ودعوتهم الناس للإسلام تتم بحجج علمية دامغة، وكما أسلفنا في الحلقة الماضية فقد كان لافتا أن يتلقف شخص مميز وشهير في سيرته العلمية المسيحية كالدكتور جاري ميلر مشعل الدعوة آن اعتناقه للإسلام، ويتفرغ لها بشكل كامل مجيبا في مشواره الدعوي المكثف عن كل تلك النقط الكلاسيكية التي يتخذها المبطلون من بني جلدتنا -كما الغرباء- ذريعة للتنقيص من الإسلام، وبالحجة العلمية الحالقة للفتافيت. وقد أورد الدكتور ميلر سلسلة من الحقائق العلمية المذكورة بكتاب الله تعالى والتي أذهلته وجعلته يدرجها حجة حجة مع عرضها بأمانة علمية دقيقة.
وتبدى في عرضها حجم الذهول الذي انتابه وهو يضع يديه على حقيقة إعجاز القرآن الكريم وكونه من عند الله عز وجل، ولفرط اندهاش الدكتور ميلر من فحوى هذا الإعجاز لقب كتاب الله ب: “القرآن العظيم” هو الذي كان يحسبه كتابا لسرديات مملة لبيئة صحراوية هي بيئة الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا بــه مع الإطلاع المتأني يجده شاملا لما كان وسيكون. وفي السياق أدرج د ميلر حكاية بحار تورنتو بكندا الذي أعرب عن انبهاره من دقة كتاب الله عز وجل في وصف العاصفة على سطح البحر، وقد خبرها في أتون عاصفة بحرية عاش فصولها بعرض البحر الشيء الذي دعاه حين اطلع على ما جاء في ذكرها بكتاب الله عز وجل، إلى إعلان إسلامه فورا كما جاء في مقال ميلر. وعلى امتداد هذا المقال يدرج د ميلر أمثلة لسبق القرآن الكريم إلى عرض الحقائق العلمية، ويمكن الإطلاع عليها مفصلة على شبكة الإنترنيت.
وإذا كان الله عز وجل إزاء كل هذه الاجتهادات البشرية التي قادت ولا تزال تقود كبار العلماء خاصة من الغربيين إلى اعتناق الإسلام، بل الانبراء إلى الدفاع عنه بكل الوسائل الدعوية كما يفعل د جاري ميلر حيث نشر العديد من المقالات وأعد الكثير من البرامج الإذاعية والتلفزية في نصرة الإسلام، كما يسهم حتى اللحظة بشكل فعال من خلال مواقع الانترنيت في الرد على الافتراءات بشكل علمي انطلاقا من موقعه كمفكر وعالم.. نقول إذا كان الله عز وجل إزاء كل هذا الجهد البشري العلمي لإعلاء راية الحق وإسقاط رايات الباطل يقول في محكم التنزيل: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا }، هل نستطيع الاطمئنان إلى هذه التصريحات الخاصة بشرع الله سبحانه، والبعيدة عن الاستخلاصات العلمية وهي تطعن في أحكام الله القطعية التي فصل العلماء في إعجاز الخالق في تنزيلها على صورتها الكاملة علم من علم وجهل من جهل؟؟ وهل نتذكر في سياق هذه الجعجعة إلا ذلك المثل الإنجليزي الذي يقول إن الصحون الفارغة أكثر إحداثا للضجة؟؟ وهل نكون نحن أهل الدعوة إلا بعضا من هذه الصحون الفارغة ونحن بين من يؤثر إراحة دماغه من جهد البحث لتنوير الغافلين، ومن يشوهون صورة الإسلام المعتدلة الداعية للجدال بالتي هي أحسن وهم يبرون أقلامهم لاستبدال الرد العلمي بالرد العدواني التكفيري الذي يبعد الضالين تماما عن أية مبادرة في اتجاه التعمق في معرفة الإسلام . ولو كان المتنورون من الدعاة يتدججون بأسلحة المنازلة الإقصائية عوض أسلحة الحب والاستيعاب مع بذل العلم بكل سلاسة وتواضع لما كان بين أيدينا هذه الطوابير من المعتنقين للإسلام ومنهم د جاري ميلر. وكم يحتاج خفاف العقول من بني جلدتنا إلى من يدلهم على عظمة القرآن الكريم من خلال عظماء كبار من الغربيين أخذ بلبهم هذا الكتاب العظيم عقليا ووجدانيا. قال الروائي العالمي الروسي ليو تولستوي عن القرآن: (سوف تسود شريعة القرآن العالم، لتوافقها وانسجامها مع العقل والحكمة لقد فهمت.. لقد أدركت أن ما تحتاجه البشرية اليوم هو شريعة سماوية تحق الحق وتزهق الباطل) وهذا الرجل العملاق على المستوى الأدبي قال عنه الروائي الروسي الشهير دستويفسكي: (إنه معلمه وإنه مجرد تلميذ له وإن تولستوي هو الأجدر أن يكون المعلم بالمجتمع). وحين نقرأ كلام تولستوي الرائع والحصيف عن الإسلام وعقلانيته وتطالعنا خدمة العلماء الغربيين من الذين أسلموا لهذا الدين الظافر، لا يمكننا إلا أن نذكر قوله سبحانه في التمييز بين الغث والسمين : { إنما يخشى الله من عباده العلماء}(فاطر : 35).
ذة. فوزية حجبي