عن أبي هريرة ] عن النبي قال : >سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه<(1).
نماذج من بكاء النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته قد ذكرت في ذلك نماذج كثيرة وغاية في الروعة والجمال منها: بكاء الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم : عَن ابن مَسعودٍ رضي الله عنه قالَ : ((قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم : “اقْرَأْ علي القُرآنَ” قلتُ : يا رسُولَ اللَّه ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ ، قالَ : “إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي” فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء ، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية : {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً}(النساء : 40) قال “حَسْبُكَ الآن” فَالْتَفَتُّ إِليْهِ ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ))(2). ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يحفرون قبراً لدفن أحد المسلمين وقف على القبر وبكى ثم قال : “أي إخواني لمثل هذا فأعدوا”. وقال عبد الله بن الشخير رضي الله عنه : “أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء” (أي كغليان الماء في قدر الطعام). وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون بحضرته عند مواعظه وعند سماع القرآن، قال العرباض بن سارية رضي الله عنه : ((وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت لها القلوب وذرفت لها العيون…))(3). وقد قص علينا القرآن الكريم سيرة الصالحين الذين رضي الله عنهم وخلد ذكرهم وقدمهم لنا نماذج يقتدى بها وكان من حالهم أنهم يبكون عند سماع ذكر الله تعالى وتلاوة آياته من ذلك قوله تعالى: {وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}(الإسراء : 106- 109). وقوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكيّا}(مريم : 58) .
وقال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى- : “فكانت حال رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم – عند المواعظ: الفهمُ عن الله, والبكاء خوفاً من الله, ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكر الله وتلاوة كتابه فقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. بل إن الصحابة رضي الله عنه كانوا يبكون لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكره ابن القيم: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر : ((أخبرني ما يبكيك يا رسول الله؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما))(4)
. ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعض السلف : ((ابكوا من خشية الله فإن لم تبكوا فتباكوا))(5). وقد بكى بعض الصحابة لقلة ذات يدهم ولعجزهم عن أداء بعض الطاعات كالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطمأنهم القرآن الكريم بأن لا سبيل عليهم ولا حرج قال تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}(التوبة : 92). وعلى الجملة فإن البكاء ينبغي أن يكون طاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم يجري عليه من الأحكام ما يجري على غيره من الأعمال من الصواب والخطأ ومن الإخلاص والرياء وغيرها مما يشوب الأعمال … أجر وثواب البكاء لله وقد وعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم البكاءين بأنواع من الأجر والمثوبة ووردت بذلك نصوص منها: وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم))(6). عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عينان لا تمسهما النار و عين بكت من خشيه الله))(7). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين : أما القطرتان فقطرة من دموع في خشية الله ، وقطرة دم تهراق في سبيل الله وأما الأثران : فأثر في سبيل الله ، وأثر في فريضة من فرائض الله))(8).
وعلى كل فإن المؤمن الصادق قد يذكر الله تعالى ويذكر أن الله تعالى يذكره {ولذكر الله أكبر} أي أن ذكر الله للعبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى، فإذا ذكر العبد الضعيف الفقير المتصف بكل صفات النقص أن القوي العزيز المتصف بكل صفات الكمال ذكره فإن هذا من شأنه أن يلقي في القلب شعوراً بالعناية والحظوة والإكرام لا يقاوم ولا يستطيع التعبير عنه إلا بذرف العبرات… وعن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيِّ بن كعب : “إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة” قال : “وقد ذُكرت عند رب العالمين” قال : “أالله سماني لك؟” قال: “نعم” فذرفت عيناه – وفي رواية : “فجعل أبيٌّ يبكي” هذا الحديث تصديق لقول الله تعالى – في الحديث القدسي : ((… ذكرته في نفسي…)). والخلاصة أن البكاء ليس بالتصنع وبالتظاهر إنها علم بالحقائق وتحلٍّ بالرقائق وندم على ما فات وما اكتنفه من التقصير في حق من إليه المصير وعلى ما هو آت وما ينتظر العبد من الحساب بين يدي الخبير البصير. نماذج من بكاء الصالحين عندما نقرأ عن بعض الصالحين {الذين يبيتون لربهم سجداً وبكياً}. وأن بعضهم كانوا يقضون الليلة بأكملها مع آية واحدة من كتاب الله تعالى يرددونها حتى الصبح لم يكونوا يرددونها جافة معزولة مجملة بل كانوا يخوضون في نصوص لا حصر لها -بحسب درجة علمهم- تنقلهم إلى تفاصيل معانيها ومراحلها وتجول بهم في أزمنة وأمكنة خارج عالم الشهادة مستعينين بما عرفوا من الحق عن أحوال وأهوال يوم الجمع الذي لا ريب فيه مستحضرين مواقف ومصائر من مضى من الأمم في مشاهد صورها الوحي تصويرا بديعا وبأسلوب بليغ كاد يذيب الفرق بين عالم الشهادة الذي يظرف أجسادهم وعالم الغيب الذي طارت إليه أرواحهم… عندما نقرأ مثلا أن الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بات ليلة بأكملها يردد قوله تعالى : {وقفوهم إنهم مسئولون…}. كان مترددا طول الليل بين: الدنيا التي يحيا فيها والآخرة التي هو موقن بالمصير إليها.
بين الرعية التي تحمل مسؤوليتها والجبار الذي سيسأله عن كل فرد منها. بين الأرملة واليتيم والذمي الذين يمكن أن يغفل عنهم أو يتهاون في حق من حقوقهم أو يظلموا عنده وبين رسول الله الذي هو خصمه دونهم يوم القيامة. وبين الجائع الذي لم يطعمه والمريض الذي لم يعالجه والعاري الذي لم يكسه وكل التفاصيل المتعلقة بهذه الأمانة التي هي خزي وندامة يوم القيامة.
بين الدنيا التي يعيش فيها والملك الذي ابتلي به وبين تطاير الصحف يوم القيامة واشتداد الهول والحر وإلجام العرق الناس والإتيان بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها… وغيرها من المشاهد التي هو موقن بحصولها ولكنه غير موقن بالجواب الصواب وبالحجة والبرهان بين يدي الملك الديان… إن شدة إحساسه بهذه الأمور كان يجعل الصبح يفاجئه لأن جولته في تفاصيل يوم القيامة التي عرفها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أكبر من أن يحيط بها في ليلة واحدة. وفي الختام نعوذ بالله الكريم من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن دعاء لا يستجاب . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
د. لخضر بوعلي
——-
1- متفق عليه
2- رواه الشيخان.
3- أحمد والترمذي
4- أخرجه مسلم.
5- زاد المعاد : 1 / 185 ، 186.
6- رواه الترمذى
7- الترمذي
8- رواه الترمذي.