أولا- مقدمة في موجبات الاستعمال :
> الموجب الشرعي :
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ}(الأنعام : 1). {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}(سورة الكهف : 1). {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}(الفرقان : 1). {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}(الروم : 22). {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}(الشعراء : 192- 195). ألا إن الله جل وعلا اختار الإنسان، واختار للإنسان القرآن، واختار للقرآن اللسان. فهل بعد اختيار الله من اختيار؟ ألا إن المغرب قد اختار اختيار الله جل وعلا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا. وحمله إلى أوروبا هاديا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا. وحفظ القرآن وحافظ على لسانه منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا. فهل بعد هذا الاختيار الراسخ في الاختيار من اختيار؟ وهل يكون لحادثة 1912 وما تناسل منها قدرة على نقض هذا الاختيار؟ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء}(إبراهيم 24- 27). إننا ما دخلنا التاريخ بالماركسية أوالليبرالية، وما سطَّرنا إسهامنا الحضاري فيه باللغة الفرنسية أو الإنجليزية أو الاسبانية. وإنما دخلنا التاريخ من بابه الواسع بالإسلام، وسطرنا إسهامنا الذهبي فيه بلغة القرآن: كتاب الإسلام. ولن ندخله مرة أخرى أو نكتب في دفتره الذهبي بغير الإسلام ولغة الإسلام. وإن الدين في ربطه للإسلام بالعربية صريح. وإن التاريخ في جهره باستعمال العربية في المغرب فصيح. وإن الدستور في أول سطر فيه عن دين الدولة ولغتها الرسمية أصرح: (المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية.). وإن الميثاق الوطني للتربية والتكوين على ظروفه هو في ثاني مرتكز له أفصح وأصرح (يلتحم النظام التربوي للمملكة المغربية بكيانها العريق القائم على ثوابت ومقدسات… عليها يربى المواطنون… وهم واعون أتم الوعي بوجباتهم وحقوقهم، متمكنون من التواصل باللغة العربية، لغة البلاد الرسمية، تعبيرا وكتابة…) فهل بعد هذه الشرعيات يتلجلج في استعمال العربية بالمغرب متلجلج، أو يحاجج فيه -وحجته داحضة عند ربه- محاجج؟
> الموجب التنموي :
لا جرم أن المحور الأساسي في عملية التنمية أو العمران، على اختلاف مفاهيمها، هو الإنسان، وأنه لا انطلاق في اتجاه التنمية والعمران بدون إعداد الإنسان، وأن ذلك الإعداد لابد أن يمر بمراحل حتى يصل إلى درجة الإبداع، أو الفعل الحضاري، أو الشروع في الكتابة في السجل الذهبي للتاريخ من: استيعاب لما هو كائن عموديا وأفقيا. وتحليل علمي مخبري له. وتعليل منطقي موضوعي لظواهره. وتركيب استشرافي لما ينبغي أن يُرتقَى إليه. هذه المراحل تسَرِّع قطعها أمور، على رأسها شرط اللغة الأم؛ إذ ثبت علميا وتجريبيا (تجربة المجمع الأردني مثلا) أن الاستيعاب باللغة الأم يكون أسرع، والتواصل بها يكون أسهل، والقدرة على الإبداع تكون أكبر. وإنما اللغة العلمية الأم في هذا البلد هي العربية، اعترف بذلك المعترفون، أو جحده الجاحدون. > الموجب الحضاري : نحن دينيا وتاريخيا وجغرافيا وحضاريا… جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية أو العالم الإسلامي، عند العدو والصديق معا. ولكي نتواصل مع مكونات هذه الأمة عموديا (تاريخيا) نحتاج ويحتاجون إلى الوصل بالمشترك الذي هو الإسلام، ولغته التي هي العربية. ولكي نتواصل أفقيا (جغرافيا) نحتاج ويحتاجون إلى الوصل بالمشترك الذي هو الإسلام، ولغته التي هي العربية. ولكي نحضر في المستقبل، شاهدين على الناس كما أُمِرنا، نحتاج ويحتاجون إلى الوصل، فالاتصال، فالتواصل بالمشترك الذي هو الإسلام، ولغته التي هي العربية. هذا قدرنا الرحيم الحكيم الكريم، فلنسبق إلى الاختيار التاريخي بالاختيار، قبل أن يجرفنا اختيار التاريخ بالاضطرار.
ثانيا- مظاهر إشكال الاستعمال :
الإشكال للأسف كبير كبير، ومظاهره للأسف غليظة خطيرة، ومحاولةً لحصرها يمكن تصنيفها إلى ثلاثة:
> مظهر إهمال الاستعمال :
وذلك: إما جهلا بالعربية أصلا، كما هو حال عدد ممن كتب عليهم بعد حادثة 1912 أن يَجهَلوا أو يُجَهَّلوا العربية. ومن جهل شيئا عاداه كما يقال، َبله أن يستعمله. وإما عادة، غلبت نتيجة محيط محيط، كما هو حال ذوي اللسانَين الذين غلب عليهم بحكم العادة استعمال غير العربية. وإما رفضا لاستعمال العربية أصلا، وذلك بحمد الله، وإن وجد، قليل، كما هو حال بعض من تمكن من قبله بغض الإسلام ولغته العربية، عافاهم الله تعالى.
> مظهر فساد الاستعمال :
وذلك بالخروج عن نحو العربية بمفهومه الشامل، ولاسيما في: الصرف (كنحت دَمَقرَط الفاسد، بدل دَقرَط الصحيح) والتركيب (كاستعمال إن… وإن… بمعنى سواء…). والدلالة (كاستعمال التكريس بمعنى الترسيخ، والطرح بمعنى مطلق الوضع…). ومن تصفح صحيفة، أو استمع إلى قناة، أو قرأ بعض ما تقذفه بعض المطابع دون احتساب، أو صحح أوراق امتحانات الطلاب، أو أشرف على الرسائل والبحوث الجامعية، وكان ممن قُدِّر له أن يصحب لسان القرآن الكريم، ولسان السنة البيان، أو الشعر القديم أو النثر الفصيح… فإنه سيصاب بالذهول من هول ما أصاب اللسان العربي من خروق اتسعت على الراقع. وحتى الساعة لا يزداد الخرق إلا اتساعا. وحتى الساعة لم يُستمع لأجراس الخطر التي تصرخ هنا وهناك بعنف. وحتى الساعة لم يُتدخَّل لإطفاء الحريق الذي يكاد يأتي على الأخضر واليابس: نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد
> مظهر المزاحمة في الاستعمال :
وله صورتان كبيرتان: – صورة مزاحمة اللغات الأجنبية ولاسيما الفرنسية بحكم حادثة 1912 وهي مزاحمة إبعاد لا مزاحمة إمداد وإسناد. وعند واقع التعليم منذ الابتدائي حتى نهاية التعليم العالي الخبر اليقين؛ حصصا ومعاملات وتخصصات …. وآفاقا وتوجّهات وارتباطات… ولكثير من مؤسسات القطاع العام والخاص إمداد وإسناد لذلك الإبعاد. ولحسيس العولمة بالخارج والداخل هدير وزئير، وهي تفور تكاد تَمَيَّزُ من الغيظ، لمن ألقى فيها إذا ألقي فيها شهيق وزفير.. هذه صورة وهي الأكبر والأخطر، والأدهى والأمر. – وصورة مزاحمة اللهجات المحلية. وكثيرا ما يضخم خطرها تغطية وصرفا للأنظار عن الخطر السابق الأكبر.
ثالثا – محـاولـة لحصـر الإشكـال :
تلك المظاهر على تنوعها وتباعدها، مردها عند التأمل في عللها، ومحاولة حصرها، إلى سبب واحد وحيد هو الجهل. أجل، الجهل بأنواعه الثلاثة أيضا:
> جهل بجدوى الاستعمال :
الذي هو سبب الترك والإهمال؛ إذ لو عرف الجاهلون به فوائد العلم به حاضرا ومستقبلا، وفوائد استعماله في مختلف المجالات لطلبوه وقدموه، ولو عرف ذلك الرافضون لرفضوا ما هم فيه وتابوا مما هم عليه إليه. ولو عرف ذلك المعتادون لغيره لعادوا إليه. ولكنه الجهل المفوت لكثير من الخير، وجزى الله خيرا صاحب المثل القائل: (الّلي ما عَرفَك خَسرَك= الذي ما عَرَفَك خَسِرَك)
> جهل بصحة الاستعمال :
الذي هو سبب فساد الاستعمال؛ إذ لم يعد اكتساب العربية من الأصول الصحيحة الفصيحة التي كانت قبل حادثة الاحتلال (الاستعمار) في العالم الإسلامي، ونُزِّلَت مُستَنبَتَاتٌ منزلة الأصول، تَعرِف منها وتُنكٍر. وحَدَثَ في هذا الظرف وأُحدِثَ “الحديث” مبتوتا مقطوعا أو يكاد من القديم، فكان، نتيجةَ الشرخِ الأخدود، شروخ في اللغة وفي غير اللغة…. ولن يستقيم أمر اللغة إلا بميزان اللغة…. ولن يستقيم أمر العربية إلا بميزان العربية… وإنما رأس البيان، في ميزان العربية وبميزان العربية، القرآن. وما لم يؤسس التعليم على القرآن فلن يستقيم لاستعمال العربية ميزان.
> جهل بضرورة وحدة الاستعمال :
الذي هو سبب المزاحمة في الاستعمال؛ إذ لو علمنا وأيقنا أن لابد من لغة واحدة في الاستعمال لتسهيل الجمع ومنع التفريق، وتسريع التفاهم ودفع التصادم، وتكثير الائتلاف وتقليل الاختلاف …. إلى غير ذلك من لوازم رص الصف والانطلاق الجماعي في اتجاه التنمية الشاملة، والإبداع الحضاري المتميز. لو علمنا ذلك لاخترنا، واقعا واستعمالا، كما اخترنا، دستورا وميثاقا، العربية والعربية خاصة، لأسباب كما تقدم متعددة كثيرة. رابعا- اقـتـراح حـل للإشـكـال : لا جرم بعد الذي تقدم أن الحل يكمن في هذا اللفظ القليل المفيد: القضاء العلمي المنهجي الشامل على الجهل بأنواعه الثلاثة:
> القضاء العلمي على الجهل بالبحث العلمي للإشكال استيعابا وتحليلا وتعليلا وتركيبا من مُؤَهَّلِين مُعافَين، أقوياء أمناء لا تأخذهم في العلمية لومة لائم.
> القضاء المنهجي بالتخطيط والتنفيذ المحكم التدريجي الذي لا يؤخر ما حقه التقديم، ولا يقدم ما حقه التأخير، ولا يساوم على ثابت من أجل متغير، ولا على اختيار بسبب ضغط كبار.
> القضاء الشامل بتتبع الإشكال في كل المجالات حسب الأولويات على المستوى الرسمي والشعبي معا. ولا شك أن ذلكم القضاء يتطلب على رأس ما يتطلب:
1- القرار السياسي السريع والإرادة السياسية الحازمة الحاسمة.
2- التعاون الصادق المستمر من جميع مؤسسات المجتمع ومكوناته. خـاتمة في لـوازم البدء والإتمـام : وإنما يلزم الإتمام بالشروع كما يقرر ذلك علماؤنا. وأول الشروع، الشروع في السير في الاتجاه : اتجاه من بيده القرار إلى الإسراع في اتخاذ القرار (فقد بلغ السيل الزبى ووصل الحزام الطُّبيَينِ.) اتجاه من يعلم الحال والمآل إلى الإلحاح في الطلب بالتي هي أحسن لتحسين الحال والمآل اتجاه من يجهل واقع الأوضاع إلى الحرص على الاستماع للتي هي أقوم بالتي هي أسرع. وأخيرا :وا لغتاه! وا عربيتاه!! فهل يسمع المعتصم النداء؟ وهل يسارع أهل الحل والعقد لكشف البلاء؟ وهل يتعاون أحياء الأمة على كشف الغمة؟ اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
أ.د. الشاهد البوشيخي
———
(ü) عرض ألقي في الحلقة الثانية من الندوة العلمية التي نظمتها أكاديمية المملكة المغربية حول قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب 16- 17 ربيع الثاني/25- 26 ماي 2005.
موضوع قيم ورائع..حفظ الله تعالى شيخنا الجليل، وأطال الله في عمره، وجعله دائما منارة خير وعلم وهدى للأمة