الثانية : أي الحلقة الثانية من بين الحلقات الفرعية للموضوع أعلاه : ((عرض موجز لعناصر قاعدة الحال، مع التركيز على الجانب الموظف في هذه الآية . أبرزنا في الحلقة الفرعية الماضية (الأولى من هذا المحور) بعض مكونات الجملة {وهذا كتاب مصدق} التي يؤكدها الحال ((لسانا))!. ولا ينبغي أن تشغلنا الدلالات الجزئية للكلمات عن المعنى العام المنسوج منها لدلالة الآية ككل. فالدلالات الفرعية للكلمات وسائل، والمعنى الذي ينبغي أن يفهم منها متظافرة هو الغاية، وهذا التظافر بين الكلمات الدالة والمعنى العام الذي يفهم منها مجتمعة هو الذي يحقق دلالة هذا العنوان الذي اخترناه لمناقشة الآيات القرآنية انطلاقا من الدلالات اللغوية ((مباني ومعاني)).
إنه أسلوب القرآن الكريم بلسان عربي مبين، و{لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}. هذا وللحال أقسام وأحكام، نذكر البعض منها بإيجاز، ونفصل القول بعض التفصيل في الجانب الوظيفي للبعض الآخر منها فقط، مما يفيدنا في توضيح دلالة الآية التي نناقشها، وفي هذا السياق يقول ابن هشام ((والحاصل أن الحال أربعة أقسام :
أ- المبيّنة للهيئة، وهي التي لا يستفاد معناها بدون ذكرها (بمعنى أنها لا تفهم من الجملة التي تتضمنها إلاّ إذا ذكرت بنفسها، وليس ثمة أي عنصر في الجملة يمكن أن تفهم منه) مثل : ((أقبل عبد الله فرحاً))، وقوله تعالى : {فخرج منها خائفاً}(القصص : 21)، (إذ الملاحظ أن كلاّ من ((فرحاً)) و((خائفاً)) حال. ولو حذفنا كلاّ منهما من جملته لبقيت الجملة خالية من دلالة الحال. كما لو قلنا مثلا ((أقبل عبد الله)) فقط. أو {فخرج منها} فقط. وهذا بعكس ما سنلاحظه في النوع الثاني عندما نتأمل أمثلته.
ب- مؤكدة لعاملها : وهي التي لو لم تذكر لأفاد عاملها معناها. (والمقصود بالعامل هنا هو الفعل) مثل ((عاث عمرو مفسداً)) وقوله تعالى : {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد}(ق : 31). فنحن نلاحظ أن الفعل الذي تتصدر به الجملة في المثالين وهما ((عاث)) في الأولى، و{أزلفت} في الثانية يحمل كل منهما دلالة الحال الوارد في الجملة بعده، فالعثوّ هو الإفساد، والإزلاف هو التقريب. فكل مزلف قريب، وكل قريب غير بعيد. ومن أمثلة هذا النوع التي ينبغي أن نتأملها لترسيخ هذا الجانب من القاعدة في أذهاننا، قوله تعالى : {وأرسلناك للناس رسولاً}(النساء : 79)، وقوله تعالى : {فتبسم ضاحكاً}(النمل : 19)، وقوله تعالى : {ولّى مدبراً}(القصص : 31).
إن الملاحظ في كل هذه الأمثلة وما يشبهها أن الحال من جنس العامل الذي هو الفعل هنا.
جـ- المؤكدة لصاحبها (أي لموصوفها) كقوله تعالى :{لآمن من في الارض كلهم جميعا}(القصص : 21) ومثل قولك : ((جاء الناس قاطبة)) أو ((كافة)) أو ((طرّا)).
د- المؤكدة لمضمون الجملة، وقد سبق أن مثلنا لهذا النوع بما يطابق ما ورد في الآية التي نحن بصدد مناقشتها في آخر تعريفنا للحال بقولنا ((زيد أبوك عطوفاً)) وبقول الشاعر بعده : أنا ابن دارة معروفاً بها نسبي(البيت) وبعد هذا العرض الموجز لأقسام الحال الأربعة المتضمنة لمفهومي البيان والتأكيد. وهما مصطلحان وظيفيان دلاليا، نتطرق إلى حكمي الحال من حيث الثبوت والانتقال، بمعنى أن من بين أنواع الحال المذكورة ما يؤدي وظيفته الدلالية بشكل ثابت لا يحيد عنها، ومنها ما يؤدي تلك الوظيفة بشكل مؤقت بحيث يُحتمل أن تعوض تلك الوظيفة الدلالية بغيرها مثل ((عاد المسافر مبتهجاً)) لأنه يمكن أن يعود مكتئبا لسبب من الأسباب. يقول ابن هشام وهو بصدد ذكر أحكام الحال : ((فالأول : الانتقال، ونعني به أن لا يكون وصفاً ثابتاً لازماً، وذلك قولك : “جاء زيد ضاحكاً”، ألا ترى أن الضحك يزايل زيداً، ولا يلازمه. وهذا هو الأصل (في الحال المبينة). وربما جاءت دالة على وصف ثابت كقوله تعالى : {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا}(الأنعام : 114)))(1)، وقوله تعالى : {شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم قائما بالقسط}(آل عمران : 18)(2).
والواضح من خلال النص أعلاه أن ورود الحال المبينة دالة على الثبوت قليل بدليل حكايتها الحرف ((رب)) التي تدل على التقليل، وفي وصف دلالتي الحال على الانتقال كثيراً، والثبوت قليلا يقول ابن مالك : وكونه منتقلا مشتقاً يغلب لكن ليس مستحقا ويشرح ابن عقيل هذا البيت بقوله : الأكثر في الحال (المبينة كما سيتضح في الأمثلة التي سيوردها في هذا السياق وإن لم ينص على الحال المبينة) أن تكون منتقلة مشتقه، ومعنى الانتقال : أن لا تكون ملازمة للمتصف بها نحو : جاء زيد راكبا، فراكبا : وصف منتقل لجواز انفكاكه عن زيد)) بأن يجيء ماشيا. وقد يجيء الحال (ويعني أيضا المبينة) غير منتقلة، أي وصفا لازماً (ثابتا) نحو : دعوت الله سميعا، وخلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها وكقوله الشاعر : فجاءت به سبْطَ العظام كأنّما عمامته بين الرجال لواء فالكلمات الواردة في الأمثلة أعلاه وهي ((سميعا)) و((أطول)) و((سبْط)) أي حسن القد، أحوال. وهي أوصاف ملازمة لموصوفاتها فالسماع لا ينفك عن الحق سبحانه، وطول يدي الزرافة خلقة فيها، وكذا الذي ولد سبط العظام)) هكذا يتضح من خلال هذه الأمثلة أن الحال المبينة تدل على الثبوت وتكون غير منتقلة عندما تكون صفة الحال خلقية في الموصوف بها))(3).
النوع الثاني من أحكام الحال : المؤكدة، وفي هذا النوع يقول السيوطي : ((أما المؤكدة فلا يغلب فيها الانتقال، بل هو والثبوت فيها كثيران (أي عدم الانتقال والثبوت) نحو قوله تعالى : {وهو الحق مصدقا لما معهم}(البقرة : 91) {وأن هذا صراطي مستقيما}(الأنعام : 153)، {ولا تعثوا في الارض مفسدين}(البقرة : 60)، {ويوم أبْعث حيّا}(مريم : 33)، {فتبسم ضاحكاً}(النمل : 19)))(4). والخلاصة أن الحال بخصوص أحكامه على ضربين : ((فالضرب الأول ما كان منتقلا (وهو الحال المبينة كما سبق ذكره) كقولك : جاء زيد راكباً، فراكبا حال، (من الفاعل وهو زيد). وليس الركوب بصفة لازمة ثابتة (لزيد حين مجيئه). إنما هي صفة في حال مجيئة (في هذه المرة) وقد ينتقل عنها إلى غيرها (كمجيئه راجلا مثلا). وليس في ذكرها (أي ذكر الحال) تأكيد لما أخبر به، وإنما ذكرت زيادة في الفائدة وفضلة في الخبر. ألا ترى أن قولك جاء زيد راكبا فيه إخبار بالمجيء والركوب، إلا أن الركوب وقع على سبيل الفضلة، لأن الاسم قبله قد استوفى ما يقتضيه من الخبر بالفعل. وأما الضرب الثاني (وهو المؤكدة) فهو ما كان ثابتاً غير منتقل، يذكر توكيداً لمعنى الخبر، وتوضيحاً له، وذلك مثل قولك ((زيد أبوك عطوفاً)) ((وهو الحق بينا)) ((وأنا زيد معروفاً))، فقولك عطوفا حال وهو صفة لازمة للأبوة فلذلك أكدت بها معنى الأبوة، وكذلك قوله : وهو الحق بينا، أكدت به الحق، لأن ذلك مما يؤكد به الحق إذ الحق لا يزال واضحاً بيناً، وكذلك قوله : أنا زيد معروفاً حال، أكدت به زيداً، لأن معنى معروفاً : لا شك فيه، فإذا قلت أنا زيد لا شكّ فيه كان ذلك تأكيداً لما أخبرت به، قال تعالى : {وهو الحق مصدقاً} فمصدقا حال مؤكدة، إذ الحق لا ينفك إلا مصدقا…))(5).
والسؤال : ما نوع الحال ((لسانا)) في الآية التي نحن بصدد مناقشتها {وهذا كتاب مصدقا لسانا} وما هو حكمه الوظيفي؟! بتأملنا لأمثلة أقسام الحال الأربعة السابقة :
أ-ب-جـ-د. يتضح أن الحال في الآية الكريمة من النوع الرابع ((د)) الذي مثل له ابن هشام بقوله : ((زيد أبوك عطوفا)) وعطوفا حال، وهو صفة ملازمة للأبوة، وعليه يكون ((لساناً)) في الآية حالا مؤكدة لمضمون الجملة قبله في الآية : {وهذا كتاب مصدق}، ويكون ذلك على وجه الثبوت والملازمة، ذلك كلمة ((كتاب)) وهو رسالة من رب العالمين، لا تبلغ إلا بلسان ما. ومادامت الألسن متعددة كما يستفاد من قوله تعالى : {ومن آياته خلق السموات والارض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم}(الروم : 22)، وقوله تعالى : {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}(ابراهيم : 38). مادامت الألسن متعددة ومختلفة فإن كلمة ((لسان)) في الآية بمثابة اسم الجنس تحتمل هذا اللسان أو ذاك. ولذا جاءت كلمة ((عربيا(( بعدها لتخصص اللسان المقصود. وهذا عكس ما رأينا عند ابن منظور، الذي اعتبر كلمة ((عربيا)) حالا و((لسانا)) توكيداً، وهذا ما سنفصل القول فيه في الحلقة المقبلة إن شاء الله تعالى.
د. الحسين گنوان
—-
1- شذور الذهب لابن هشام ص 249.
2- همع الهوامع 37/1.
3- شرح ابن عقيل 49/2 بتصرف.
4- همع الهوامع 239/1.
5- شرح المفصل 64/1.
< المراجع : – شذور الذهب لان هشام. – همع الهوامع للسيوطي. – شرح ابن عقيل.