التربية عملية إنسانية ملازمة للإنسان ملازمةَ الروح للجسد، فما دامت مختصة بالإنسان، فهي تلك العملية المنظمة الهادفة إلى تنمية جوانبه العقلية والنفسية والجسمية والاجتماعية، تنمية شاملة ومتكاملة. والتربية في القاموس الإسلامي، تهدف إلى تحقيق إنسانية الإنسان، على مستويات العقل والعاطفة والجسم. ولما كانت التربية بمنهج العقل والتعقل على مستوى الفعل الإنساني محط عناية جل الباحثين في مجال التربية، كان من الجدير والقمن بالاهتمام الانفتاح على منهج آخر من مناهج التربية هو منهج التربية على العاطفة والوجدان والشعور النفسي، وتنحدر أصول هذا المنهج من السنة النبوية، ولنا مع هذا المقال وقفات مع أثر هذا المنهج من خلال مرويات أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
الاهتـــمام بأهــل بيته صلى الله عليه وسلم مـلاطفة ومبرة : هذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تبرهن على أهمية المنهج العاطفي في التربية، من خلال نقلها للأمة مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على ملاطفة أهله ومسامرتهم والحديث معهم، واضعة للأمة درسا في التربية على هذا الخلق العظيم، إنه التربية على العاطفة الصادقة، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: “إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا صلى، فإذا كنتُ مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع حتى يؤذّن بالصلاة”(1). كما توجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الأمة إلى أهمية العاطفة وأثرها في المدعوين من خلال ما روته عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث شهد المصطفى صلى الله عليه وسلم بكمال إيمان العبد إذا هو اتصف بخصلتين؛ حسن الخلق، والرفق واللين بالأهل، وكما طُولب عامة الناس بهذا المطلب، فقد طولب الخواص من أهل الدعوة والتربية به أيضا، لأن تحليهم بمثل هذه الأخلاق الفاضلة، تدخل محبتهم قلوب الناس، فيحصل النفع وتعظم الفائدة بدعوتهم، فعنها رضي الله عنها قالت: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنُهم خلقا وألطفهم بأهله”(2)، وفي التأكيد على هذا المعنى قال بعض شراح الحديث: وكمال الإيمان يوجب حسن الخلق والإحسان إلى كافة الناس، وقوله: “وألطفهم بأهله” أي أرفقهم وأبرهم بنسائه وأولاده وأقاربه وعترته، والحديث يدل على أن المؤمنين ليسوا سواء في الإيمان، بل بعضهم أكمل إيمانا من بعض.
عاطفة البكاء والحزن في المواقف الإنسانية : وتوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الأمة إلى التربية على العاطفة المضبوطة بميزان الشرع، في حالة نزول المصائب بالعبد المسلم، فالحزن والدموع عند مفارقة الأحباب، أمر لا يتعارض مع الشرع، وقد صدر من النبي صلى الله عليه وسلم تحقيقا لبشريته، وتوافقا على العواطف الإنسانية التي فُطر عليها الخلق وتعليما لأمته خلق الرحمة، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل عثمان بن مظغون وهو ميت، حتى رأيت الدموع تسيل”(3)، ومن أجل توضيح هذا الهدي النبوي، عقد ابن القيم فصلا في ذلك فقال: “وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخشوع للميت، والبكاء الذي لا صوت معه، وحزن القلب، وكان يفعل ذلك ويقول: “تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب”(4).
إن ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في هذا الموقف النبوي يؤكد مبدأ التربية على ضبط العواطف البشرية بضابط الشرع، الذي لا يخرجها إلى دائرة التسخط والاعتراض على قضاء الله وقدره، وفي الوقت نفسه يُعطي نفسه، ويعطي النفس البشرية حقها، لما يخالجها من عواطف وأحزان على فراق الأحباب.
عاطفة الحنو على الصبيان : وتتجلى معالم المنهج العاطفي في التربية من خلال أحاديث عائشة في السيرة النبوية ذلك “أنها قالت: أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه”(5)، إنه خبر يبرز مدى أهمية العاطفة في التربية والرحمة، وأن الأخيار والصالحين يجب أن تتوفر فيهم مثل هذه السجايا والخصال الحميدة، رحمة بالأمة، بدءا من الصبيان، وانتهاء بالشيوخ، وهذا رسول الله يسع عطفه ورحمته وحلمه، فيخاطب الصغار بمنطق الصغار، والكبار بمنطق الكبار، بعقل وقلب، بعلم وحب وعاطفة، باعتباره الإنسان الذي تكاملت فيه صفات الإنسانية المثالية، في جميع أحواله، ليكون بذلك القدوة في الحياة عامة. وفي إشارة لبيان بعض الفوائد المستنبطة من هذا الحديث، قال الإمام العيني: “ومن الفوائد، الرفق بالصغار، والشفقة عليهم”(6).
عاطفة المحبة للناس والرحمة بالأمة : عنيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بتربية الأمة على العطف والمحبة والتراحم بين أفرادها وجماعاتها، من خلال روايتها لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تعنى بهذا الغرض الوجداني والاجتماعي، من أجل التأسيس لمنهج قلبي في الإقناع في نطاق تكاملية الاستدلال بين والعقل القلب، ذلك لأن الإقناع والاقتناع نتائج لمقدمات علمية تربوية، وأخرى قلبية وجدانية، وهذه هي الميزة التي تميز بها الخطاب الدعوي الذي تصدر له رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة ليعد نموذجا كاملا، فخطابه خطاب زاوج بين المحبة والإيمان، بين القلب والعقل، بين الوجدان والمنطق، ليدل ذلك أن التربية على العاطفة منهج قوي في التأثير في الآخر، وما عناية أمنا عائشة بالتربية على هذا المنهج إلا دليل على صلاحه لضمان الغايات الأخلاقية والتربوية التي جاءت الشريعة الإسلامية لبنائها ولتتميمها. إن المنهج العاطفي في التربية، ليس مقصورا على عبارات منمقة، وأساليب مشوقة، وخطب رنانة يضمنها الدعاة قاموسهم الدعوي، في بعدٍ عن حيز التنفيذ. بل هو سلوك عملي واقعي، يراه المدعوون ويحسون به، ويتأثرون به، ويكون مفتاحا للخير الذي يقصده الدعاة وأرباب التربية على المبادئ الإسلامية السمحة. ويزيد تأكيد عائشة رضي الله عنها على هذا المنهج التربوي، لما كان له من أثر جلي على نفسها، فقد شملها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعطف ورعاية، أثمرت تربية ناجحة لداعية ملهمة موفقة، نفع الله بها الأمة جيلا بعد جيل، فتنطلق رضي الله عنها مبرهنة على واقعية هذا المنهج في التربية، من خلال سلوكه صلى الله عليه وسلم معها . ففي الرحمة بالأمة والشفقة عليها، تروي أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا توضح من خلاله مدى عنايته عليه السلام، بتجنيب أمته المشقة في الدين، وسلوكه بها سبل التيسير، فتنقل ذلك للأمة، متأسية به صلى الله عليه وسلم، وناصحة للأمة عامة، وللدعاة إلى الله خاصة، بنهج هذا السبيل. فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو قرير العين، طيب النفس، فرجع إليها وهو حزين، فقالت له، فقال: “إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي”(7) وهكذا يفصح صلى الله عليه وسلم بعد دخوله الكعبة، عن حزنه في الدخول، معللا ذلك بشفقته على أمته ورأفته بها، لما قد يعرض لهم من مشقة في محاولة التأسي به في الدخول، وعدم قدرتهم على ذلك. إن حياة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، صورة مشرقة للمرأة المسلمة عموما، وللدعاة إلى الله على وجه الخصوص، لقد كانت مُثلا عُليا للحياة الزوجية، ودُروسا علمية تَكشف من خلالها الجوانب الدعوية المؤصلة على المنهج العاطفي في بناء الإنسان وتربية النشء.
دروس وعبر من منهج أمنا عائشة رضي الله عنها : من الدروس التربوية والدعوية المبنية على المنهج العاطفي في دعوة أم المؤمنين ما يلي:
- إظهار الرأفة والرحمة بالمدعوين، وعدم حمل الناس على ما لا يطيقون. – توجيه الأمة إلى التربية على العاطفة المضبوطة بميزان الشرع، عند نزول المصائب بالعبد المؤمن.
- الحث على أهمية العاطفة، وبيان عظم أثرها على المدعوين، وأن ذلك دليل على كمال الإيمان.
- الحث على الرحمة والشفقة بالأمة في أمور الدنيا والدين، والنهج بهم منهج التيسير، طبقا لما يقتضيه منهج التربية على العاطفة والوجدان.
وعلى العموم يبقى منهج التربية على العاطفة، منهجا نبويا يمكن استثمار قواعده ومقاصده، من أجل تكوين واقع تربوي منسجم على كافة مستوياته المعرفية والتربوية، في تواصل بناء بين أفراد هذا الواقع، من أجل إعادة هيكلة الحقول التربوية والتواصلية في نطاق منهج يستقي مواده من معين النبوة، ويتمثل مرويات أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الموضوع، من أجل تنشئة جيل فاعل تتكامل فيه مقومات الفعالية والمشاركة الإيجابية في الحياة العامة للمجتمع.
صهيب مصباح طالب بالتعليم العتيق -طنجة
———-
1- متفق عليه واللفظ للبخاري، كتاب التهجد، باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع. رقم 1161
2- سنن الترمذي، كتاب الذبائح، باب ما جاء في استكمال الايمان، رقم 2600
3- سنن أبي داوود كتاب الجنائز، باب تقبيل الميت، رقم 3163
4- صحيح مسلم، كتاب الفضائل، بار رحمته الصبيان رقم 4380
5- صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب بول الصبيان رقم 218
6- عمدة القاري شرح صحيح البخاري ، للعيني، 3/133 دار احياء التراث العربي. بيروت.
7- سنن الترمذي ،كتاب الحج، ما جاء في دخول الكعبة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.